في شبه جزيرة البلقان والتي ضمَّت بين طياتها دويلات من إثنيات وأديان ومذاهب مختلفة، وتغطي مناطق من يوغسلافيا (سابقًا) واليونان وألبانيا، ولقرون عدة كانت شبه جزيرة البلقان منطقة صراع محلي وإقليمي ودولي. ويرجع سكان هذه المناطق إلى القرن السابع الميلادي من الأقوام السلافية، وسيطر عليها العثمانيون (الأتراك) لقرون عدة من التخلف فيما بعد.
مرّت يوغسلافيا بمراحل تاريخية خلال القرن العشرين، الأولى (مملكة صربيا) 1914-1918 حيث عانت هذه المملكة من صراع مستمر بين الكروات والسلوفان وأصبح اسمها فيما بعد مملكة يوغسلافيا كمحاولة لدمج بقية الأقاليم وتوحيدها، وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى اعتلى العرش الملك الكسندر الأول الحاكم المطلق للفترة 1929-1934 واغتيل بعد هذا التاريخ وتم تنصيب ابنه (بيتر) ولم يكن مؤهلاً للعرش ليتم اختيار ابن عمّ الملك السابق كمرشح لمملكة صربيا والتي عرفت بعدها مباشرة بمملكة يوغسلافيا نتيجة الخلافات مع الكروات والسلوفان. أما الفترة الثانية 1945-1991 وأثناء الحرب العالمية الثانية اجتاحتها دول (المحور) ألمانيا وإيطاليا بعد أسبوعين من القتال وتم اقتسام يوغسلافيا من سلوفينيا وكرواتيا والجبل الأسود وكوسوفا ومقدونيا.
قاوم اليوغوسلاف دول المحور، وتمثلت المقاومة بطرفين الأول بقيادة العسكري (دارزا ميلوفتج) والثاني بقيادة العسكري الآخر (جوزيف برزتيتو).
ومن الجدير بالذكر أن طرفي المقاومة كانا على اختلاف وفي قتال في الوقت نفسه الذي يقاتلان دول المحور، وكانت المقاومة تنطلق من قمم الجبال ومغاراتها والغابات، كانت تنطلق بالإمكانات التقليدية في أكثر الأحيان.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أعلنت جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية وأصبح تيتو رئيس الاتحاد، وساهم الأخير بالتخلص من منافسيه ومعارضيه وأعلن سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وكان هذا الاتحاد مكونًا من صربيا وكرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود ومقدونيا، وبقيّ هذا الاتحاد حتى ممات تيتو عام 1980، بعدها حكمت يوغسلافيا رئاسات مختارة بحيث كل فدرالية ترشح ممثلها في الحكومة المركزية، وكل واحد من هؤلاء يحكم يوغسلافيا لمدة عام واحد. واستمر الوضع على هذا المنوال حتى العام 1989، جاءت بعدها الصدمة الكبيرة في سقوط الاتحاد السوفيتي الشريك الأكبر ولم يعد هناك منافس قوي على مختلف الصعد، وبدأ تدخل بعض الدول الأوربية كما يشير بعض الباحثين بحجة: «أن الكتلة الأكبر في العالم انهارت ولم يبق سوى الكتلة الأخرى بزعامة أمريكا»، وأخذت دول أوربا الشرقية تتداعى تدريجيًا ومن ضمنها يوغسلافيا لتفكك الفدراليات، وانقسمت يوغسلافيا بين دعاة الانفصال ودعاة الوحدة من وجهة نظر البعض، وفي البداية انفصلت البوسنة والهرسك وكرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا عن يوغسلافيا ولم يبق سوى صربيا والجبل الأسود. وعرفت باسم جمهورية يوغسلافيا الاتحادية «صربيا والجبل الأسود» والعاصمة بلغراد للفترة 1992- 2003 وبعدها عرفت باسم اتحاد صربيا والجبل الأسود 2003-2006.
على أي حال.. فيما يتعلق بالمسلمين اليوغوسلاف في كوسوفا تحديداً نحاول تسليط الضوء عليها بعض الشيء: «صفحة الإقليم تغطي نحو 11 ألف كيلومتر مربع وتوزعت عليها 1348 مدينة وقرية، تتصدرها سبع مدن كبرى. السكان وصل عددهم في إحصاء عام 1981 إلى مليون و584 ألف نسمة. السهول والوديان تشكل 36 بالمئة من المساحة. المرتفعات والجبال والغابات تحتل النسبة نفسها، والمساحة الباقية لحساب الأنهار، وأهمها نهر مبيلي دريم (112كم) وايبار (85) ونيبا (67 كم). تجسد بريشتنا عاصمة الإقليم ومدن أخرى قضية التعدد في الهوية على الطبيعة. لكن ذلك التعدد يبقى محصورًا في دائرة الأوراق الرسمية واللافتات ومؤسسات الإدارة الحكومية، إذا ما خرج المرء من العاصمة وطاف بمختلف القرى وفي عاصمة الإقليم وبعض المدن الصناعية ترى وجهًا يوجسلافيًا وآخر ألبانياً أو إسلامياً. بينما القرى وفي المدن النائية، لا ترى إلا وجهًا ألبانيًا واضح المعالم وغائر القسمات.
عودة للتاريخ.. يذكر ياقوت الحموي أن ملك البلغار وأهلها قد أسلموا في أيام المقتدر بالله (259هج-908م) وأرسلوا إلى بغداد رسولاً يعرّفون المقتدر بذلك، ويسألونه في إنفاذ من يعلمهم الصلوات والشرائع.
وثمة شاهد في كوسوفا يعزز فكرة وصول الإسلام إلى البلقان قبل وصول الأتراك. ويتمثل هذا الشاهد في ضريج لواحد من الأولياء اسمه ساري سلطاكو يرقد جثمانه في مدخل مدينة بيا. ليس بعيدًا عن أشهر معمل للفضيات في الإقليم، وأن الإسلام عرف طريقه إلى البلقان قبل أن تظهر سيوف الأتراك وخيولهم على مشارف كوسوفا. وأن دخول الإسلام لم يرتبط بالفتح العثماني كما يردد الكثيرون، ليعطوا انطباعًا أن الإسلام دخل هذه المنطقة بحد السيف العثماني، والإشارة التاريخية هي طرق العثمانيين أبواب البلقان في النصف الثاني من القرن الرابع عشر (1300) حتى أن نفوذ السلطان العثماني لم يعترف به في ألبانيا إلا في سنة 1423 م. وخلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر استطاع العثمانيون أن يبسطوا نفوذهم على منطقة البلقان وأن يعينوا ولاة يمثلون الأستانة في كل إقليم «أيالة» عثمانية.
وفي معاهدة لندن السرية التي عقدتها في عام 1915 الدول الكبرى آنذاك «إيطاليا وروسيا وفرنسا وانجلترا» اتفقت على تقطيع أوصال تلك الدولة البلقانية ذات الأغلبية المسلمة، فأطلقت فيها يد إيطاليا. واتفق على تقسيم شمالي وجنوبي ألبانيا بين اليونان والصرب والجبل الأسود بشرط يبقى للألبان وطنًا مستقلاً صغيرًا.
وشهدت مناطق البلقان مذابح دموية عام 1912 راحّ ضحيتها آلاف الأبرياء ليس من المسلمين فحسب بل حتى من المسيحيين الشرقيين.. ويصف تقرير مؤسسة كارنيغي لسنة 1914م/1333هـ، «هذه العمليات الوحشية ضد المسلمين بأنها بلغت أعلى مستويات القتل ولم تر أوروبا من قبل مثل هذه المذابح». وتشير التقديرات أيضاً إلى مقتل وطرد نحو 2.9 مليون مسلم في منطقة البلقان خلال الفترة 1912-1926م/1331-1345هج.
ويرى البعض «أن ألبانيا وكوسوفا دفعت ثمناً باهظاً بعد انهيار الدولة العثمانية، حتى بدأت بعض الأقاليم والدول المجاورة بخوض الصراع ليس في سبيل التوسع وإنما لتصفية الحساب مع الإمبراطورية العثمانية (المتخلفة) والتي اثقلت كاهل شعوب المشرق والمغرب بحكمها المطلق».
وحين أُنشئت عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى اعترفت بالوضع الذي كان لألبانيا بعد تقطيع أوصالها مما كان يعني اعترافًا بضم كوسوفا إلى صربيا وإضفاء الشرعية على عملية فصل ذلك الإقليم عن ألبانيا الأم.
وساهم بتأزم الموقف إبان فترة حكم مملكة يوجسلافيا ما بين الحربين العالميتين عندما صرحت الإدارة اليوجسلافية: «أن المسلمين ليس لهم سكن في كوسوفا وأن مكانهم الطبيعي هو في تركيا». وترجم هذا الموقف في اتفاقية رسمية بين البلدين في عام 1937، تقضي بتهجير الألبانيين من كوسوفا إلى تركيا نظير مبلغ من المال، ولكن نشوب الحرب العالمية الثانية حال دون تنفيذ الاتفاقية، (مجلة العربي، الكويت، العدد 277، كانون الأول 1981).
وبالرغم من انتقال يوغسلافيا من الملكية إلى الجمهورية بعد الحرب العالمية الثانية كان يمثل انقلاباً شاملاً في مختلف نواحي الحياة، إلا أن هذا الانقلاب لم يغير من أوضاع مسلمي كوسوفا شيئًا. فقد ظلّ مسلمو كوسوفا في حقيقة الأمر عنصراً غير مرغوب في استمراره، وبقى الاتجاه العام هو تهجير هؤلاء المسلمين إلى تركيا، حتى شهدت خمسينيات القرن الماضي حملة تهجير واسعة النطاق، لم تمانع الحكومة التركية من قبولها وإن اشترطت على كل مهاجر أن يوقع إقراراً بأنه «تركي الأصل حتى لا يطالب بحقوقه باعتباره ألبانياً».
وكانت الفترة 1950-1968 والتي عُرفت بفترة «القبضة الحديدية» وكانت مقاليد الحكم في تلك الفترة تخضع للجناح المتشدد في الحزب الذي كان يقوده الكسندر رازكوفيتش ويتمثل بمصادرة الحريات والقمع الذي وقع على اليوغسلاف، ونال أهل كوسوفا القسم الأكبر باعتبار أنهم غرباء ومن أصول خارجية عن البلقان أو أتباع ديانة أخرى، لكن بعد العام 1968 اعتبر سكان كوسوفا هناك مرحلة جديدة انطلقت مع التعديلات الدستورية عاميّ 1971 و1974، كما شهدت فترة الثمانينيات تغيرات واسعة بعد بدايات التفكك للاتحاد اليوغسلافي والذي انتهى في واقع الأمر عام 1991.
جاءت مرحلة تاريخية أخرى تمثلت بفترة الصراع الذي كانت تتحكم فيه أطراف داخلية مرتبطة بأجندات خارجية أدت إلى نتائج وخيمة خلال فترة التسعينيات 1992-1999، حتى استقلال كوسوفا في شباط 2008.
وأخيراً يمكن القول:
إن مستقبل مثل هذا النوع من البلاد المتعدد القوميات والأديان والمذاهب ليست في خطر، لكن دائماً هناك فئات لا ترغب بالعيش بسلام وفق أجندات داخلية تحركها أجندات خارجية ووفق مصالح معينة، وحتى الدول التي سعت إلى إثارة القلاقل بحجة حماية الجماعة الدينية لفئة معينة من هذا الإقليم أو في مكان آخر من دول البلقان تحت مبدأ هناك عدم احترام للمشاعر الدينية تارة أو عدم التوافق بين العرقيات تارة أخرى - نجد هذه الإرادات الخارجية نفسها التي اشتركت في الصراع تتجنب إثارة نعرات عرقية في بعض مناطق البلقان الأخرى لحساسية الوضع هناك مع دول أخرى لا ترى موعد هذا الآن في عملية الصراع ولم يمنع من تدخل دول من غير المجاورة ليوغسلافيا (سابقا) دول كبرى تساند قيام صربيا بعمليات «سحق التمرد» كما يسميها متشددو الصرب الذين قاموا بقتل الآلاف من المسلمين الأبرياء (قتل على الهوية) كما حدث من قبل صرب البوسنة ضد المسلمين للفترة من نيسان/أبريل 1992-1995 وأشهرها مذابح مدينتي «سربيرنتشا» و»جيبا» التي قتل فيها الصرب - غيلة وحقدًا - أكثر من ثمانية آلاف مسلم وألقوهم في حفر كبيرة بالجرافات، وهذا يشابه ما يحدث في بورما (مينمار) ضد جماعة الروهينغا المسلمة والتي تعود قصتها إلى الحرب العالمية الثانية، وكذلك تركستان الشرقية والصراع الصيني - الروسي ضد الجماعات الدينية المسلمة آنذاك، وما حدث في فيتنام ضد مسلمي (تين فوك وقرى نهون)، والاضطهاد في سيلان (سيرلانكا) في ثمانينات القرن الماضي وكمبوديا جماعة (الخمير الحمر) وحكمهم بالقسوة ضد المسلمين، وأخيراً ما حدث للعرب المسلمين في فلسطين من قبل إسرائيل وما حدث ويحدث للعراق بعد الاحتلال الأمريكي العام 2003 وباقي أقطارنا الشقيقة لتمزيق العروبة والإسلام. وتبقى هذه المناطق من العالم، هي بمنزلة قنابل موقوتة وجاهزة للتفجير وفق الإرادات والمطامح والمطامع.
وكما يقال: «لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر فلابد للسلم أن يتولد في عقول البشر أيضاً»، وعلى الله قصد السبيل.