د. محمد عبدالله العوين
من جملة الرسائل التي أعتز بها وأحفظها مع الأثير القريب من قلبي في درج خاص من خزانة مكتبتي رسالتان من علامة الجزيرة العربية الأستاذ حمد الجاسر يثني - رحمه الله - على كتابي المقالة في الأدب السعودي الصادر في طبعته الأولى 1412هـ ويشير إلى معلومات ورد جزء منها في فصل من فصول الكتاب ثم يضيف إليها إثراء وتفصيلا، أما الأخرى فيعتب فيها علي أنني لا أذكر (ابن) حينما أورد اسمي قارئا نشرة الأخبار؛ فيعاتبني بما يشبه التقريع: هل اسمك مركب؟ وإذا لم يكن كذلك فلم لا تذكر (ابن) بين محمد وعبد الله؟! ويفيض به الحديث إلى التعليق على أمور تتصل بالكتابة والإلقاء.
ورسائل عدة من الأدباء على سبيل المثال لا الحصر: عزيز ضياء، وعلي حافظ وحسن نصيف وعثمان الصالح ود. محمد رجب البيومي، ومهدي علام نائب رئيس مجمع اللغة العربية، وحمد القاضي، وحمد العسعوس، وغيرهم مما يحتاج إلى ليال متوالية لفرز الرسائل الأدبية من غيرها من رسائل الأصدقاء والأقرباء أو المستمعين والمشاهدين، وهي بطبيعة الحال الأغلب والأكثر، وتحتوي على نقد قاس أحيانا أو مديح وإطراء مبالغ فيه أحيانا أخرى، أو على طلبات بإعادة حلقة من إحدى البرامج أو نقل برنامج على شريط كاسيت وإرساله عبر البريد إلى من طلبه، وبمراجعة تلك الرسائل أعود إلى الزمن الجميل الذي استولت فيه إذاعة الرياض على اهتمام نسبة كبيرة من المواطنين، ومتابعة المسؤولين ونخبة المجتمع ما يقدم فيها، وهو الشأن نفسه من الاهتمام بالمتابعة لما يقدم في القناة الأولى من التلفزيون السعودي في الفترة التي مارست فيها العمل الإذاعي ما بين 1400- 1428هـ قبل أن تتوسع القنوات الفضائية العربية وغير العربية في ملء الفضاء، وقبل أن يفرض الانترنت سطوته على أوقات الناس، وقبل أن تهيمن وسائط التواصل الاجتماعي بأشكالها المتعددة على سرعة الوصول بطرق فنية جذابة في متناول جميع فئات المجتمع، مما حول صناعة المادة الإعلامية من المختصين المكلفين بها إلى عامة الناس، فكل مرسل ومنتج عبر أداة بث من وسائط التواصل هو محرر ومنتج ومخرج ورئيس تحرير لما يبث وينتج من مادة إعلامية.
يحسن بي ألا أذهب بعيدا وراء هذه الفذلكة في صناعة المادة الإعلامية والبون الشاسع المذهل بين زمنين مختلفين كل الاختلاف، هو الفارق نفسه بين فن الرسائل الورقية زمن البريد التقليدي والرسائل الإلكترونية زمن الإنترنت.
لا أخفي حزني على اختفاء فن الرسائل الورقية التي لا يعوض عنها ما يتكاتبه المتراسلون عبر البريد الإلكتروني؛ ذلك أن الكتابة بخط اليد تسهم إلى حد كبير في تصوير ما يتوق إليه كاتب الرسالة إضافة إلى جمال وحسن الأسلوب والصدق في التعبير، على خلاف الكتابة الالكترونية التي تتشابه تحت نقرات أصابع كل الناس على الكيبورد؛ اشتدت العواطف أو تبلدت، احتدمت المشاعر أو ترمدت!
وسأعرض في الجزء الثالث والأخير من هذا المقال نماذج طريفة من بعض الرسائل.