د. عبدالحق عزوزي
يرى الخبراء أن فرنسا وأوروبا لم تستشارا في الانسحاب الأمريكي من شمال سوريا، ولا في الورقة الخضراء التي أعطيت للتدخل العسكري التركي في سوريا ولا في التحالف الروسي- التركي؛ بمعنى أن قواعد النظام الأوروبي - المتوسطي - الأطلسي تغيرت عن بكرة أبيها؛ ونفهم من خلال ذلك تصريح الرئيس الفرنسي عندما تحدث عن «الموت السريري» للحلف الأطلسي، في مقابلة نشرتها مجلة «ذي إيكونومست» التي أشرنا إليها في مقالتنا للأسبوع الماضي؛ وقال الرئيس الفرنسي بالحرف: «نشهد عدواناً من شريك آخر في الحلف، تركيا، في منطقة مصالحنا فيها على المحك، من دون تنسيق». وتساءل الرئيس الفرنسي بصورة خاصة حول مصير المادة الخامسة من معاهدة الحلف التي تنص على تضامن عسكري بين أعضاء التحالف في حال تعرض أحدهم لهجوم. وقال ماكرون «ماذا سيحلّ بالمادة الخامسة غدا؟ إذا قرر نظام بشار الأسد الرد على تركيا، هل سنتدخل؟ هذا سؤال حقيقي». وقال ماكرون «الحلف الأطلسي كنظام لا يضبط أعضاءه. وانطلاقا من اللحظة التي يشعر فيها أحد الأعضاء أن من حقه المضي في طريقه، فهو يقوم بذلك. وهذا ما حصل». انتقدت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، الحليف التقليدي لفرنسا، هذا الحكم «الراديكالي»، وقالت في مؤتمر صحفي مع الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ «لا أعتقد أن هذا الحكم غير المناسب ضروري، حتى لو كانت لدينا مشاكل، حتى لو كان علينا أن نتعافى».
المهم أن التصريح الرسمي الفرنسي جاء موازاة مع تحولات إقليمية كبيرة جدًا وبالأخص مع الدور التركي - الإيراني - الروسي في المنطقة؛ كما جاءت مع انسحاب الحليف التقليدي الأمريكي من شمال سوريا التي سمحت بالتوغل التركي، والكل يعلم أن العقوبات التي طالت بعض المسؤولين الأتراك من الولايات المتحدة الأمريكية بسبب هذا التوغل ما هي إلا عقوبات لا تسمن ولا تغني من جوع؛ وكل الاستراتيجيين يفهمون أن هناك توافقا قبليا وتحالفات جديدة في نظام عالمي جديد جعلت أوروبا في صف المتفرجين المدافعين عن النفس... فبمجرد ما انسحبت أمريكا من شمال سوريا، تدخلت سوريا عسكريا في المنطقة وقتل زعيم داعش أبو بكر البغدادي... كما أن هذا التصريح جاء في عز الاحتفال بالذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين؛ وقد ظلّ الجدار قائما لمدة 28 سنة وثلاثة أشهر قبل أن يدمر في نوفمبر/ تشرين الثاني 1989 تمهيدا لتفكيك الاتحاد السوفييتي وانهيار الشيوعية.
كما أن هناك معطى آخر وقع فيه الأوروبيون وهو دفاعهم بل وحنينهم إلى النظام العالمي القديم المجسد في التوازن - الأوبامي في سياسته الخارجية. ويمكن أن يتجلى لنا مثلاً هذا الحنين من خلال تصريحات شتاينماير الرئيس الألماني الأخيرة، رغم منصبه الفخري؛ فمنذ أيام خلال خطابه بمناسبة الذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين، توجه برسالة إلى الإدارة الأمريكية الحالية، داعيا لها بإظهار «الاحترام» لحلفائها والتخلي عما وصفه بـ»الأنانية القومية» وأمام بوابة براندبورغ التي رمزت حتى عام 1989 إلى «انقسام ألمانيا»، أشار شتاينماير في خطاب إلى الدور الرئيسي للولايات المتحدة، «الذراع القوية للغرب»، في انهيار الستار الحديدي قبل ثلاثة عقود. وقال «نحن الألمان، ندين بالكثير لأمريكا، بوصفها شريكا من أجل الديمقراطية والحرية، ضد الأنانية الوطنية. هذا ما آمله أيضا في المستقبل»، في إشارة إلى الإدارة الحالية في البيت الأبيض..
الرئيس الفرنسي يعي بدوره هذا الكلام جيدًا، ويفهم أن قواعد النظام العالمي الجديد التي رسم معالمها الرئيس ترامب بنفسه، ويتحكم بها بنفسه مختلفة عن سابقاتها، وهو يوجهها في بعض الأحيان على حسب مزاجه، وستدفع لا محالة إلى مزيد من تمزيق التعاون الأوروبي-الأمريكي، خاصة أن أمريكا-ترامب ليس في صالحها اتحاد أوروبي قوي؛ وفهمنا ذلك جليًا من خلال الضمانات التي أعطاها الرئيس ترامب لبوريس جونسون وحكومته بعد أن تخوف الكثير من البريطانيين من طلاق مؤلم لخامس أكبر اقتصاد في العالم عن الاتحاد الأوروبي وهذا من شأنه تقويض النمو الداخلي والضغط بشدة على أسواق المال وإضعاف وضع لندن بوصفها المركز المالي الدولي الأبرز كما ستكون هناك تداعيات سلبية خطيرة على الاقتصاد البريطاني تتعدى التخوفات التي كانت تطلقها بعض الأحزاب لتبرير عملية البريكست خاصة في مجال الهجرة والتدفق غير المسبوق في تاريخ أوروبا للمهاجرين القادمين من سوريا ودول الصراعات والحروب، والمهاجرين الذين يأتون من بعض دول الاتحاد الأوروبي كدول البلطيق ورومانيا وبولندا..