أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: في سني المراهقة الفنيَّة من عمري؛ (ولمَّا تنتهي تلك المراهقة بعد): كنت أسمع (بنت إبراهيم) تشدو بهذين البيتين لـ(أحمد شوقي):
ولي بين الضلوع دم ولحم
هما الواهي الذي ثكل الشبابا
تسرَّب في الدموع فقلت ولى
وصفَّق في الضلوع فقلت ثابا
فكنت أجد في الأنغام التي تؤدِّي كلمة (الدموع) صورة حيَّة مكثَّفة بدموع ممطرة، كما أجد في الأنغام التي أدت بها كلمة (الضلوع) صورة حيَّة ثانية مكثَّفة لحنايا وهشيم خشخشت فيه النار؛ فعلمت أن الشعر الذي يقال على وزن لحن غائب مجهول، أو منسي: لا يحقّق الكلمة الموسيقية، وقد يحقق الكلمة الشاعرية من ناحية الصورة.. إن في اللحن وما تألف منه من أنغام ظواهر تقتضي أنماطاً من النطق، وأبعاداً زمنية؛ وبعض هذه الظواهر تبدو في النطق بالشعر إنشاداً لا غناءً كالنبر، وكالحلية النغمية التي ليست بنية في اللحن كـ (الإجهاشة)؛ ومنها ما لا يبين إلا في اللحن الغنائي؛ فأي منشد مثلاً يستطيع أن ينشد هذا الشطر:
تعال نسهر سوه في نور بهاه
فيرجع كلمة (بهاه)، وتموّجها يميناً وشمالاً، علوّاً وتحتاً، ويحلق بمدتها في بعد زمني شاسع يأخذ بتلابيب القلوب كما كان يسمع هذا الألق في تلك الكلمة المغناة في قصيدة (هلت ليالي القمر)؟!.. إلا أن الشاعر إذا ابتدع لحناً جديداً لوزنه، أو كانت ذاكرته تستذكر لحناً مأثوراً: فإنه يبدع في تحري الكلمة الموسيقية والشاعرية؛ أما النظم على أوزان مأثورة غائبة الألحان فلا يجر إلا إلى نظام نثري يُسمى نظماً لا شعراً؛ لأنه افتقد مقومات الشعر غير الوزن، ويُسمى نظماً؛ لأنه يميزه تعاقب الوحدات في نظام وترتيب معين؛ فصار وزناً؛ ولا يكون وزناً لحنياً يحقق الكلمة الموسيقية إلا إذا كان تأسيس الشعر قائماً على الألحان والأنغام؛ ولهذا كان اللحن هو الذي يؤسس الوزن دون العكس؛ بل كان الوزن الواحد تؤسسه ألحان عديدة؛ ولهذا وجدت أوزان واحدة في فنون شعبية كثيرة بمختلف الأقطار العربية؛ ولم يولد هذا الوزن لحن واحد؛ وإنما أبدعت المجتمعات ألحاناً؛ فصادف التقاء عدد من الألحان في وزن واحد.
قال أبو عبدالرحمن: وأفضل الوزن عن ألحانه بعيد (الخليل بن أحمد) رحمه الله تعالى؛ لأن (الخليل) اشتق الأوزان من ألحان في ذاكرته، ثم أراد أن يحصرها للناس بالتقطيع البصري؛ ليدرك قالب اللحن (وهو الوزن نفسه)؛ من غاب عنه اللحن؛ فانساق الشعراء وراء نظام الوزن بالتقطيع البصري، أو استذكروا القياس السمعي؛ فكان شعرهم وزنياً لا لحنياً في الأعم الأغلب.. إلا من كان منهم ينطلق عن غناء يلحنه لنفسه سواء أكان ذلك بترنم ساذج، أم بلحن فني على آلة؛ لهذا كان الشعر العربي في جملته كما ذكر (الفارابي)، و(ابن رشد)؛ ولهذا أيضاً كان الموسيقار العربي يعاني تطويع الكلمة للحن بالتعديل أو التغيير.. ولقد أشرف العرب في القرون الأولى على ألحان بيزنطية وهندية وفارسية وحبشية ... إلخ.. إلا أن فهمهم للشعر فهماً تاريخياً جعلهم لا يقبلون من الألحان إلا ما وافق أوزان الشعر العربي؛ ليغني شاديهم نفس الشعر عليه؛ فإذا صادفته كلمة على وزن (فعول) مثل (أبيت) نطقها (أبيتو)؛ فأشبعها واواً؛ لتوافق وزن (فعولن) الذي يقتضيه اللحن.
قال أبو عبدالرحمن: إن نظرتنا إلى الشعر العربي في عموديته بحراً واحداً، وقافيةً واحدة، مع تساوي الأشطر: تجعلنا نجزم بأن الغناء العربي ذو لحن واحد قالبه البيت الواحد، ثم يتكرر هذا اللحن في بقية أبيات القصيدة.. وما يحدث من تغيرات كالنبر وعدمه، والحدة أو الثقل: فإنما هو تغيير في نوعية النغم وأبعاده؛ وهو تغيير لا يؤثِّر على وحدة اللحن.. ولقد ركد الشعر العربي على هذه الوحدة اللحنية، وقصر الموسيقيون في استنطاق كنوز الموسيقى؛ لتبدع أوزاناً جديدة من حيث تقتضي القصيدة أكثر من لحن.. ويكون كل لحن عبارةً عن (كوبليه) يستوعب عدداً من الأبيات والزمن ترتاح الأذن إلى استقراره، وتنقبض من تغييره بسرعة؛ ثم يكون الانتقال الموسيقي التمهيدي إلى (كوبليه) آخر ذي وزن آخر، ولحن آخر؛ إذن الخصب الموسيقي يقتضي في القصيدة أكثر من وزن، وأكثر من لحن، وأكثر من قافية وروي؛ ويقتضي أشطراً مستوية، وأشطراً غير مستوية.. إن وجود الألحان الكثيرة التي لم تخضع للوزن العربي يقتضي تجديداً سريعاً في الأوزان والعروض.. إلا أن العرب أمة غالة في أوج الحماس بمأثورها؛ والتعصب له، ولم يدركها بعد الملل والسأم من التكرار؛ لهذا تأخرت الاستفادة من الموسيقى، ومن الألحان الأجنبية.. ونحن الآن نرى التجديد الحداثي في معمارية القصيدة الحديثة فنباركه؛ ولكن بشرطه الموسيقي؛ فإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.