منصور ماجد الذيابي
حظيت الترجمة منذ زمن بعيد حتى اليوم باهتمام إقليمي ودولي كبير نظرًا لأنها تمثل همزة الوصل في التواصل والتفاهم بين الحضارات والثقافات المختلفة لدول العالم. ونعلم أنه من دون الترجمة فإنه لم ولن يكون بالإمكان مد جسور للتواصل الاجتماعي والتفاهم العلمي والتبادل التجاري مع الدول الأخرى ذات الثقافات المختلفة. وباستعراض الدراسات السابقة، ومن خلال البحث العلمي ودراسة نظريات الترجمة، إلى جانب دراسة علم اللغة المقارن أثناء مراحل دراستي محليًّا وخارجيًّا، ومن واقع خبرتي الطويلة أيضًا في هذا المجال المعرفي، فإني أرى أن الترجمة فن من الفنون، لا يجيده كل منتسب إليه، أو كل متحدث بلغة أجنبية، أو حتى كل منتسب إلى أبوين ينتمي كل منهما إلى ثقافة مختلفة لغويًّا واجتماعيًّا.
هذا المجال لا يقترب منه كل من يخشى مسؤولية الترجمة في تحمُّل تبعات الخطأ وعثرات اللسان في النقل بين اللغات؛ فالخطأ أثناء الترجمة الفورية قد يصل إلى حد اتخاذ قرار بإعلان الحرب بين دولتين، أو قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما. كما أن الأخطاء في الترجمة الطبية مثلاً قد تؤدي إلى تعريض حياة المريض للخطر إن لم يكن المترجم عارفًا بلغة Medical jargon، ومؤهلاً لهذه المهمة بما لديه من مخزون معرفي، يشتمل على معاني المصطلحات الطبية والتعابير الشائعة للغة التي يترجم إليها، ويتفاوض مع المتحدث بها نيابة عن المريض؛ إذ إن تشخيص الطبيب المعالج سيعتمد على وضوح معلومات التاريخ المرضي للحالة قيد الفحص والتشخيص.
ولذلك، وبدلاً من أن تكون الترجمة جسرًا للتفاهم، فربما تتحول إلى قنبلة موقوتة حينما لا يكون المترجم خبيرًا، وأمينًا، ويقظًا، ولغويًّا ماهرًا، وواثقًا من إلمامه التام باللغتين المصدر والهدف.
ومنذ عصر النهضة الأوروبية يدرك الجميع الدور المهم للترجمة في إثراء الدراسات والأبحاث العلمية للدول الغربية التي ما كان لها أن تتقدم علميًّا لولا مبادراتها بترجمة كتب الرواد المسلمين في مجالات الطب والفلك والرياضيات، وغير ذلك من العلوم والاكتشافات التي توصل إليها العلماء خلال عهود الدولة الإسلامية المتعاقبة.
ولإثراء مسيرة الحراك العلمي والتفاعل الثقافي للحاق بركب التقدم العلمي فقد برزت الحاجة في الدول العربية إلى توحيد المصطلحات العلمية، وإنشاء أقسام علمية في الجامعات العربية لتدريس وتشجيع الطلاب على التخصص في مجال الترجمة من أجل مواكبة حركة التقدم والتطور العلمي في الدول الغربية لتوطين التقنية الحديثة في المجالات المختلفة. وفضلاً عن أهميتها من الناحية العلمية فإن للترجمة أهمية قصوى من ناحية جس نبض الدول المعادية لكشف نوايا الأعداء، وإحباط مخططاتهم قبل البدء بتنفيذها. ومما يدعم ذلك بأهمية الترجمة هو القول الشائع: «مَنْ تعلم لغة قوم أَمِن مكرهم».
غير أن ممن لا يعرف طبيعة الترجمة، وحجم المجهود الذهني المبذول، فقد يقول أحدهم إن المعاجم الثنائية أو الأجهزة الذكية اليوم توفر تطبيقات وبرامج لترجمة النصوص المختلفة بسرعة عالية ودقة متناهية. وهذا صحيح من ناحية السرعة فقط، وليس من ناحية الجودة والدقة والوضوح؛ فالمشكلة في الترجمة الآلية أنها لا تنقل لنا روح النص في اللغة المصدر كونها تتعامل فقط مع البناء السطحي للنص المكتوب؛ وهو ما يجعل النص المنتج ركيكًا في أسلوبه، وغامضًا في معناه. فهذه التطبيقات مهما كان حجم ذاكرتها من المفردات فإنها لن تتمكن مطلقًا من الوصول إلى عمق النص؛ إذ يستطيع المترجم البشري المحترف أن يغوص في أعماق النصوص حتى وصوله لمستوى فهم نوايا المتحدث، أو نوايا الكاتب ومقاصده وأهدافه التي لا تكون في الغالب ظاهرة بشكل كافٍ، وإنما يتم التوصل إليها من خلال التحقق، وتحليل الخلفية الثقافية وفقًا لسياق النص، ومقارنتها بما قد يقابلها أو يناسبها في ثقافة اللغة الهدف، ثم الاستنتاج النهائي لإخراج النص المترجم بحلته الجديدة في اللغة الهدف.
ولكن هل يكفي الإلمام بعلم اللغة لإنتاج وإخراج نص مترجم مقبول؟ الجواب طبعًا لا؛ إذ لا بد من فهم الخلفية الثقافية للنص اللغوي في اللغة المصدر؛ إذ سينقل منه المترجم المعاني والدلالات بما يتناسب مع السياق في اللغة الهدف؛ ذلك أن فهم الثقافة مهم جدًّا وضروري لفهم النص الأدبي مثلاً.
من كل ما سبق يتضح لنا وجود مشكلات في الترجمة Problems in translation؛ ولذلك يجب على كل ممارس للترجمة أو مهتم بها أن يفهم طبيعتها جيدًا؛ لينتقل بعد ذلك إلى مرحلة تحليل النص، ثم محاولة التوصل إلى صيغة لغوية، تكون مقبولة عند المتلقي بشرط ألا تخرج هذه الصياغة عن إطار الأمانة مع النص في اللغة المصدر، مع الاجتهاد والتصرف أحيانًا في تفسير المصطلحات والعبارات والمفاهيم إن لم يكن لها ما يقابلها في ثقافة اللغة الأم.
ومن أهم تلك المشكلات هو تدخُّل اللغة الأم أثناء عملية التأمل في النص الأجنبي؛ إذ يشعر المترجم بأن جذور لغته الأصلية تشده بقوة كملاذ آمن لمشكلات الترجمة من لغة أجنبية غريبة؛ فيضطر هنا إلى ما يشبه طلب المساعدة من الثقافة الأم؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى انحراف عملية الترجمة نحو مسار بنيوية النص في إطار قواعد الصرف والنحو في لغته الأم. وحينئذ سيكون النص المنتج أشبه بهدية أجنبية مغلفة بغطاء ثقافي، لا ينسجم مع مضمون ودلالات النص في اللغة المصدر؛ وهو ما قد يدفع بالمترجم للتورط في مشكلة كبيرة. ولعل من المناسب أن أوضح ذلك في نص مترجم مثل:
You are invited to take advantage of the chamber maid.
في المثال أعلاه أراد كاتب النص أن يقول لنزلاء فندق: «يمكنكم الاستفادة من خدمات عاملاتنا في غرف الفندق». ولكن بسبب اعتماده على قوالب اللغة الأم فقد أوقعه ذلك في خطأ محرج للغاية؛ فهذه الجملة تنطوي على دلالات جنسية بالنسبة للناطقين بالإنجليزية؛ إذ انحرف معنى الجملة؛ ليعطي دلالة باستغلال عاملات الغرف. ولمعالجة أو تصحيح هذا الخطأ ينبغي أن نقول:
Make use of our room services, or: Please make use of the chamber services.
فالمشكلة في المثال السابق تكمن في تدخل اللغة الأصلية أثناء عملية إنتاج النص عندما ابتعد المترجم عن ترجمة المفهوم، وجعل تفكيره مقيدًا بقواعد البناء اللغوي. ومن هنا ينشأ الاختيار الخطأ للمفردات المقابلة في اللغة المترجم إليها.
ومن المشكلات الأخرى تعدُّد المعاني للمفردات في اللغة الإنجليزية مثلاً؛ إذ إن كل كلمة تقريبًا يتغير معناها عند استخدامها في سياق مختلف؛ ما يعني أن المعنى يتأثر بالكلمات المجاورة في الجملة. كما تعد مشكلة التقيد بالنص في اللغة المصدر من أهم المشكلات في عملية الترجمة؛ إذ يجد المترجم نفسه مقيدًا بالنص في اللغة المصدر؛ وهو ما يعيق الحركة الإبداعية في نقل الصور الجمالية في النص الأصلي. فالمترجم لا يملك حرية مطلقة في التعبير عن وجهة نظره وأفكاره، لكنه يتحرك في حدود ضيقة، وضمن نطاق يسمح له إلى حد ما بالخروج عن النص لشرح فكرة ما أو مفهوم غير ذي مقابل في لغته الأم.