د.محمد بن عبدالرحمن البشر
يقال إن إعرابياً وزوجته الإعرابية جلسا يتحدثان، والشمس مشرقة، وكان الحي قد عزم على الرحيل بينما زوجها وابنه سيبقيان لأمر يخصهما، فقالت له زوجته، والله لأن رحل الحي لأبتاعن قماشهم، ثم لأنقشنه ثم لأغسلنه، ولأغزلنه، ثم لأبيعنه لبعض الأمصار وأشتري بثمنه بكراً، فأرتحل عليه مع الحي إذا ترحلوا، فنظر إليها زوجها نظرة غضب، وقال لها: أتراك الآن تاركتني وابني في العراء، فقالت: أي والله، فقال: كلا والله، فتلاسنا وارتفع صوتاهما، وما زال الكلام بينهما يزداد تجريحاً، فما كان منه إلاَّ أن ضربها، فصاحت بأعلى صوتها مستغيثة، فقدمت أمها، وقالت ما شأنكما، فأخبراها الخبر، فغضبت الأم، وصاحت مستنجدة بأهل ابنتها، فأسرع الحي إلى مصدر الصوت، فقالت لهم: إن هذا يريد أن يحرم ابنتي من كد يدها، وتعبها، وعنائها، واجتهادها ورزق رزقها الله، فقال القوم: على رسلكم فإن الحي ليس براحل، وقد تعجلتهم الخصومة.
هي قصة تدل على حماقة لكنها تحمل في طياتها الكثير من المعاني، والإشارة إلى السلوك الإنساني، وكثير من القرارات التي يتخذها المرء بناء على أمر متوقع لم يحدث، أو أنه لم يكن ليحدث في الأساس، فكم من علاقات ثنائية، وأخرى أسرية أصابها ما أصابها من الهجر، والسخط، وربما والمخاصمة في المحاكم، أو حتى القتل والعياذ بالله، لسبب ليس موجودا أصلاً، ولم يكن ليحدث على أرض الواقع، لكن غياب الحكمة، وحضور التعجل، واتخاذ القرار اللحظي دونما منحه الوقت المكاني يدفع الكثير إلى القطيعة التي قد لا يعود معها التواصل.
الوهم عندما يعشعش في الذهن ويبدأ الشيطان ينفخ ليضرم النار وتأخذ الأوهام مدى أوسع وأعمق وأبعد، ليخرج المرء من صورة العقل والحكمة إلى العيش في خيال سوء الظن، وفي فضائه الواسع فتنقلب علاقاته الفردية والأسرية إلى جحيم لا يطاق، ويعود ذلك بكل أنواع الألم والحزن على النفس، وقد لا يخرج المرء من هذا النقض الذي وضع نفسه فيه.
قصة أخرى حدثت في مدينة تاهرت في المغرب الإسلامي، حيث حكى أبو الخير الخياط عن بعض أصحابه، أنه دخل إلى المدينة ولم يكن لديهم قدر كافٍ من العلم الشرعي، ولديهم قاضٍ، أحضر إليه رجل قد أقدم على جناية لم يجد القاضي فيما يعلمه ما يحكم به عليه، ففكر كثيراً ثم سألهم: إن كان لديهم علماً بالحكم في الأمر، فقالوا الأمر لك، فقال: إني رأيت أن فاتح المصحف، ثم أضرب بعضه ببعض فأفتحه، فأيما وقعت عليه عيني بعد فتحه، فإنني سوف أجعله حكماً على الجاني، ففتح المصحف، فإذا عينه تقع على قول الله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}، فقال: أحضروه، فقطع أنف الجاني.
هكذا فعل، فلو أن عينه وقعت على إخلاء سبيله، فقد يفلت من الجناية، ولو وقعت عينه على قتله لقتله، وربما أن جنايته لا تستحق زهق روحه، وقد يتحير الحكيم في ذلك، وربما لو اجتهد بما يقدر عليه متلمساً دروب الحكمة والمنطق لكان أقرب للصواب من الفعل العشوائي، فالحقيقة أن العشوائية، وعدم تلمس الصواب مع عدم الأخذ بعين الاعتبار التسامح والرحمة يؤدي في الغالب إلى الظلم، ولو أن القاضي أحضر المجني عليه، وطلب منه التسامح، أو التصالح على شيء ما لكان أولى، ولاحتفظ الرجل بأنفه.
في بعض المواقف تخرج ألفاظ قد لا تناسب الحال، وقد تمر مرور الكرام، وقد ينتبه إليها متصيد كلام، فيفضح المستور، وبين أن الكلام ليس في موقعه، فهناك قصة عن أحد أصحاب مظالم البصرة، حيث وجه رجلاً يوماً في حاجة، فقضاها ورجع، فقال صاحب المظالم للرجل مادحاً إياه، ومثنياً عليه: أنت كما قيل: إذا كنت في حاجة مرسلاً، فأرسل حكيماً ولا توصه والحقيقة أنه أرسله وأوصاه، ودقق في تفاصيل مبتغاه، كما أنه أيضاً أخطأ في وصف بيت الشعر.
الحقيقة أن بعضاً من المواقف التي قد تشوبها بعض الغفل، والبلاهة، قد تحمل في طياتها الكثير من المواعظ وتبيان أمورٍ قد تكون خافية على الإنسان، لهذا فمن حسن البصيرة أن نقف عند بعض ما نراه أمامنا ساذجاً لنستفيد منه.