عبدالمجيد بن محمد العُمري
شهد التاريخ العربي والإسلامي في عصوره المتعاقبة قادةً وأبطالاً أفذاذاً كان لهم نصيبُ حافل في أحداث التأريخ تبوأوا من خلال أعمالهم مكانة رفيعة بعد أن اقترنت بأسمائهم بطولاتٌ وتضحياتٌ وأعمالٌ وأمجادٌ خالدات كانت مؤثرة وفاعلة، وكان للمرأة العربية هي الأخرى صفحاتٌ خالدةٌ في هذا المجال ومنهن من تفوقن على بعض الرجال في الفروسية والشجاعة وكان لهن مواقع مشهورة ومواقف مشهودة دونها التاريخ، ومن أمثلة ذلك (الزباء) ملكة تدمر التي ناضلت الرومان حقبة من الزمن ودفعت شرهم عن مدينتها العربية بل ماكفاها ذلك حتى غربت واحتلت مصر وكسرت شوكتهم فيها.
وحينما جاء الإسلام مر على المسلمين حين من الدهرِ كانت فيه الشهادةُ والمنيةُ أسمى أمانيهم وتساوى في طلب هذا العز والشرف الرجال والنساء فانتظمت كتائبهم تحمل الأرواح على الأكف، وهل ينسى التاريخ خولة بنت الأزور التي أسهمت مساهمة فعالة في الفتوحات الإسلامية، ومن أشهر قصصها حينما تنادلت مع مجموعة من النسوة للجهاد وتواثبن على الروم وحينما رأين انقضاض العدو وهجومه حملن أعمدة خشبية بأيديهن الغضة فانهلن على العلوج ضرباً وتمزيقاً وقتلاً وشققن الحصار الذي ضرب عليهن وعلى جيش المسلمين وقد تمكن من فتح الثغرة المطلوبة في الجيش الروماني.
وغير خولة كثير من النساء ممن سجلت مآثرهن، أو طوى التاريخ صفحاته وأشاح بوجهه عن ذكراهن،وإن كانت أفعالهن لاتقل عن أفعال غيرهن سواء أكان ذلك في الجاهلية أو في الإسلام وحتى وقتنا المعاصر.
ومنذ قديم الزمان أدرك العرب قيمة بعض النساء وخاصة ممن عرفن برباطة الجأش وثباتها لدى المكاره، وكانوا يصحبون نساءهم في غزواتهم (فما يوم حليمة بسر ولا يوم ذي قار بخاف) فقد كن يشجعن المقاتلين ويبثن النخوة والحماسة ويحاذين من يحملون الرايات، بل كن يتقدمن الصفوف الأمامية عندما يحمى الوطيس وتتكسر النصال على النصال، كما كان بعض الزعماء وقادة الجيوش ينتخون بأسماء أخواتهم (وأنا أخو....).
ومن النساء الشهيرات في مجال الدفاع عن الديار والأوطان في العصور المتأخرة الأميرة فاطمة بنت سعد آل عائض من أمراء عسير، والتي حملت السلاح وتدربت على فنون القتال وركوب الخيل وقادت عمليات قتالية وبطولية ضد المحتلين وقاومت الترك وجندهم وشنّت عليهم الهجمات تلو الهجمات ليلاً ونهاراً، حتى قام الترك بوضع خطةٍ للقبض عليها وعتقالها ونفيها لخارج البلاد عام 1289هـ حينما تم الغدر بعمها محمد، وقتل أبوها، وأسرت ونقلت إلى إسطنبول، ومكثت في الأسر 6 سنوات، وسوف أتناول سيرتها إن شاء الله في وقت لاحق.
أما الفارسة العربية مدار حديثنا فهي : غالية بنت غالية بنت عبد الرحمن بن سلطان من البقوم والتي اشتهرت بالكرم والسخاء والشجاعة والوفاء، وزوجها حمد بن عبدالله بن محي أمير تربة في ظل الدولة السعودية الأولى، وكانت قبيلته من القبائل العربية التي ناصرت الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود في الدرعية، وبايعت على السمع والطاعة مع من بايعوا آنذاك.
وكانت غالية تثير حمية الرجال المدافعين عن بلدتها وبذلت الغالي والنفيس من أجل مواجهة قوات محمد علي الغازية لبلادها، لدرجة أنها أثارت الرعب والخوف في صفوف الغزاة عند سماعهم باسمها.
كانت غالية زوجة الأمير الثري وأوتيت من الثروة حظاً كبيراً،وكان بيتها كما كان في عهد زوجها مقصداً للمحتاجين وملجأ لكل رجالات الدعوة والحرب المخلصين الذين عقدوا اجتماعهم وخططهم الحربية في بيتها، وعلى الرغم من وجود أمير للبلدة وزعماء إلا أنهم قدروا وجاهتها وكان صوتها مسموعاً ورأيها مطاعاًبل تعدى ذلك إلى تلقيبها بـ (الأميرة).
وبدأت شهرة هذه المرأة بعد أن أنفذ طوسون باشا ابن محمد علي حاكم مصر جيشاً بقيادة مصطفى بك أحد قواده لمهاجمة رجال الدعوة الذين اتخذوا من تربة مقراً لهم، فيما كان الهدف العام للحملة للقضاء على دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والدولة السعودية المناصرة لدعوته، وقد شاركت غالية الأبطال بالدفاع عن الدعوة السلفية وعن بلدتها ضد الغزاة وحملت معهم السلاح وأمدتهم بالمال والذخيرة وشحذت هممهم وبثت فيهم الحمية والحماس وأثارت فيهم روح الانتقام من الغزاة دفاعاً عن الدعوة السلفية وعن بلدتها، وقد نتج بتوفيق الله وعونه ثم كفاحها ومن معها ثقة الأهالي بأنفسهم وانتهى الأمر بهزيمة مصطفى باشا وقتل معظم أفراد قوته وارتداد الباقين على أعقابهم بعد أن تركوا مواقعهم وذخيرتهم ومدفعهم، وكان من ردة الفعل لهذه الهزيمة أن صمم محمد علي على قيام قواته بهجوم آخر في ذي الحجة 1228هـ، فأرسل ابنه طوسون على رأس قوة مؤلفة من ألفي جندي من أجل الاستيلاء على تربة وغسل عار الهزيمة النكراء التي لحقت بقواته، ولكنه لم يتمكن من ذلك بل منيت بخسائر مضاعفة.
وقد تناول المؤرخون المعاصرون لهذه الأحداث هذه الوقائع وأبانوا ماكان لهذه الفارسة من شأن ومادون من شهادات على لسان أعدائها، ويقول المؤرخ النجدي عثمان بن بشر في تاريخه-عنوان المجد في تاريخ نجد- :(إن طوسون أقبل ومعه العساكر والجموع وأنزلوا أهل بلدة تربة وحاصروها نحو أربعة أيام ونصبوا على قصورها المدافع ورموها رمياً كثيراً ولم يؤثر فيها شيئاً وأنزل الله الرعب فيه وفي عساكره بعدما قتل من قوته عدد كثير).
ويقول المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي: (إن طوسون باشا وعابدين بك ركبوا بعساكرهم على ناحية تربة التي بها المرأة التي يقال لها..غالية.. فوقعت بينهم حروب ثمانية أيام ثم رجعوا منهزمين ولم يظفروا بطائل).
وأما محمود فهمي المهندس- رئيس اركان الجيش المصري في عهد أحمد عرابي وقد كان مهندس الاستحكامات العسكرية- فيقول: (ففي أوائل نوفمبر ذي الحجة 1228هـ سافر طوسون من الطائف ومعه ألفا نفس، للغارة على تربة وأمر عساكره بالهجوم وكان العرب محافظين على أسوار المدينة بشجاعة ومستبشرين بوجود.. غالية.. معهم وهي المقدمة عليهم فصدوا طوسون وعساكره واضطر هؤلاء لترك خيامهم وسلاحهم وقتل منهم في ارتدادهم سبعمائة نفس ومات كثيرون جوعاً وعطشاً).
أما الرحالة السويسري بوكهارت في كتابه «ملاحظات عن البدو والوهابيين» (فيقول :(إن طوسون أمر جنوده بمهاجمة البلدة فوراً ولكن العرب دافعوا عن أسوارها ببسالة تشجعهم غالية).
وحينما عزم طوسون على العودة مرة أخرى إلى تربة أعلن جنوده صراحة أنهم يرفضون محاربة غالية لخشيتهم أن يكون مصيرهم مصير من سبقهم، ونتيجة لذلك أرسل طوسون لوالده محمد علي يطلب النجدة فاعتزم محمد علي أن يسير بنفسه إلى الحجاز لمتابعة القتال ولكنه اكتفى باعتقال الشريف غالب أمير مكة لارتيابه في إخلاصه.
وكان لهذه الشجاعة ولهذا الانتصار الأثر الكبير في صمود البلدان والمناطق الأخرى والإصرار والحافز على المقاومة والنضال، حتى أعيدت الكرة على تربة وغيرها في الحملة الثانية بقوات أخرى، مما اضطر معه غالية للهرب خارج تربة والبعد عن أنظار الغزاة الذين جعلوا رأسها هدفاً ومطلباً لم يظفروا به ولم ينالوا مرادهم منه فقد أجادت الهرب والكر والفر كما أجادت قيادة المعركة داخل البلدة من قبل.
وعلى الرغم من تناول المؤرخين القدامى لاسم غالية البقمية إلا أن الباحثين المعاصرين تأخروا في تناول تاريخ هذه البطلة وقد كان السبق في التأليف عنها للأستاذ سعد العفنان(البطلة الشهيدة غالية البقمية، ثم الدكتورة دلال بنت مخلد الحربي في كتابها (غالية البقمية.. حياتها ودورها في مقاومة حملة محمد علي باشا على تربة).
وقد أدرج تاريخ هذه الفارسة العربية في المناهج الدراسية في مدارس المملكة العربية السعودية هذا العام ولأول مرة حيث أفردت لها وزارة التعليم صفحة من مقرراتها لعام 1441هـ.
رحمها الله ورحم الأبطال الأفذاذ نساءً ورجالاً ممن دافعوا عن دينهم وأوطانهم ولا نامت أعين الجبناء.