د. محمد بن إبراهيم الملحم
مستحيل طبعاً، ومع أن نظريات مدارس المستقبل التي يخرج بها بعضهم هنا وهناك تدعي أحياناً عدم الحاجة إلى المعلم، وأن المدرسة ستكتفي بالآلة التي تقوم بالتدريس، وقد تكون روبوت مبرمج أو مجرد معامل حاسوبية مجهزة ببرامج موسوعية وأساليب إبداعية في التدريس الإلكتروني، إلا أن هذا محض خيال، ومع أنه نموذج يمكن عمله أو هو «توليفه» يمكن سبكها لكنها حينئذ لن تكون «مدرسة» وما فيها لن يكون تعليماً بمفهومه القيمي الذي نشأ عليه، ولا يمكن أن يكون ذلك سائغاً إلا إذا تحول الأفراد إلى آلات إنتاج لا عناصر بناء للمجتمع، المعلمون دورهم تربوي قيمي قبل أن يكون نقلاً للمعرفة، ومع ذلك فحتى في حالة النظرة القاصرة على المعرفة كهدف فهناك حالات قد لا تتمكن الآلة من دمجها في قيم الإنسان الوجدانية مثلا: كيف يمكن أن تحب الرياضيات أو اللغة مثلاً، ونحن نعلم أن الطلاب يتأثرون كثيراً بأحد المعلمين حيث يكون ملهماً وذا كاريزما في تعاطيه لموضوعات مادته وطريقة شرحه وأحياناً أسلوبه المرح وأحياناً قدراته الشخصية الاجتماعية في دمج الطالب مع الموضوع، كل ذلك أبعاد إنسانية لا تستطيع الآلة أن تقوم بها، وحتى لو تمكن الذكاء الاصطناعي من إيجاد خوارزميات معقدة وذكية تمكن الروبوت أو البرنامج من التدريس بطريقة مشابهة لتدريس معلم ما، كأنموذج مقتبس prototype فإن شعور الطالب أن هذا الشيء اصطناعي artificial لن يجعله يمس مشاعره بنفس الطريقة التي يكتسبها في الحالة الطبيعية، ومع كل ما تقدم فإننا عندما نتأمل في دور المعلم التربوي في التنشئة الأخلاقية والقيمية، ومقدار ما يكتسبه الطالب منه من الخبرة الحياتية والدعم المعنوي والتشجيع والتصويب وكثير من المعاني التي تدور حول ذلك فإننا لن نفكر في إمكانية الاستغناء عن المعلم في المدرسة.
هذا المعلم بهذا التعريف الإنساني الاجتماعي المحوري هو أساس في نظرتنا للمعلم وهو ما ينفي عنه أنه مجرد ببغاء يكرر المعرفة يحفظها ثم يأتي في الصف ليلفظها لطلابه ويدربهم عليها بطرق وأساليب مختلفة، ليس هذا هو المعلم الذي ننظر إليه، المعلم هو قدوة ومثال ونموذج وهو ملهم ومحرك للدوافع ومحفز للتفوق ومفعل للتفاعل، السؤال: إذا كان هذا هو تعريفنا للمعلم في صورته الأسمى فمن يجب أن يصون هذا التعريف في المقام الأول؟ إنه المعلم نفسه قبل أن نقول: الوزارة أو الأكاديميون أو غير هؤلاء، المعلم هو أول من يجب أن يكافح وينافح عن صورته الأصل ويصونها عن أي تشويش، وذلك لكي يفهم أصحاب نظريات مدارس بدون معلمين أنهم مخطئون، ولكي يفهم أيضا أصحاب القرار وصانعو السياسات التعليمية أن المعلم قيمة أساسية في بناء المجتمع ولا يمكن الاستغناء عنه، بل يجب تكريمه والعناية بمهنته وتقديرها ورفع منزلتها، اجتماعياً واقتصادياً، فمهنة التدريس يجب أن تكون في الصف الأول من الوظائف ذات القيمة المادية الداعمة لرفاهية الحياة، ومع كل هذه المعطيات يبدر سؤال آخر يتمم السؤال الأول: يا ترى كم معلما يمكن أن نصنفهم في هذا التعريف الإنساني القيمي العظيم؟ وفي المقابل كم معلما هم من الصنف الذي يحاكي صورة المعلم «الإلكتروني» ذلك الذي يحمل المعرفة فقط ويقدمها بكل اجتهاد لطلابه، وهو يتقن هذا الأمر جيداً حيث ينوع في الطرق ويستخدم الوسائل والأمثلة والاختبارات القصيرة ويتابع مستويات الطلاب الخ. لاشك أن كثيراً منا (إن لم يكن أغلبنا) سيقول إن المعلم من النوع الأول هم الأقلية وربما الأقلية النادرة والمعلم من الصنف الثاني هم بقية القوم، بل ربما يفيدنا بعضكم أن الصنف الثاني بهذا الوصف (الإتقان المعرفي المحاكي للحاسب التدريسي تقريباً) ليسوا كل بقية القوم فعلاً بل هم جزء منهم وربما يكونوا الجزء الأقل أيضاً، والبقية يراوحون بين المدى الضعيف والمتوسط، وحتى هؤلاء المتقنين (الأقلية) لن يكونوا في اجتهادهم وحرصهم مثل الحاسب الآلي الذي يتولى التدريس بكل جد واجتهاد، هذا من الناحية المعرفية البحتة فقط، وهكذا تقودنا هذه المقارنة والمحاكمة للواقع إلى أن نظرية «مدارس بدون معلمين» قد تنتصر يوماً ما إذا لم يستيقظ المعلمون ويحافظوا على مهنتهم ويصونوا سمعتهم فيها.. وأود أن أذكر زملائي المعلمين الأعزاء ممازحاً وجاداً في نفس الوقت أن هناك محرك اقتصادي قوي لذه النظرية لتنجح وهو أن 90 % تقريباً من ميزانية التعليم هي رواتب معلمين فانتبهوا لأنفسكم وارفعوا قيمة مهنتكم.