د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** قد يفسد المتعةَ المستمتعون بها، كما يشوه الجمالَ المفتَتنون به، ويسيء إلى الصورة مصورُها، وإلى النص قائلُه، وإلى الدار أهلُها، ولذا كان ظلم ذوي القربى أشد، وعجزُ القادر أقسى، وانتكاسةُ الملتزم أنكى، والأمرُ هنا متصلٌ باللغة التي تتواصل وعيًا أو عِيًّا؛ فتحيل الغسق فلقًا أو تهوي بالنجاد إلى الوهاد، وما اللغةُ إلا متكلموها وكتبتها.
** ولعلنا نتفق على أن اللغة علم تتداخل معه علوم في مقدمتها علوم الشريعة والفلسفة والنفس ليُقرأ من خلالها العقل قبل أن يُتأمل النقل، ولتكون اللغة شاهدًا على السلوك كما المنطق، وعلى الموقف قبل التوقيف، ويُغيِّب بعضُنا هذا المفهوم فيعدها لغوًا يتيح له التمرد والتمدد دون أن يهتم بمن سيحاكمون عقله عبر لغته، ومن سيراقبون سلوكه قبل موقعه، ومن غير أن يتساءل: ما الذي سيبقى في رصيده الموجب: قولُه أم تقوله؟ موضوعيته أم ذاتيته؟ اتزانه أم اهتزازه؟
** ميزة اللغة ترحُّلُها في كل المواسم وعبر كل المسافات ونحو جميع الاتجاهات، وهو ما يعني أن مسؤوليتها لا تقف عند المثقفين والمؤلفين والاختصاصيين بل تمتد للاعب الكرة ومحلل الرياضة وكاتب التغريدة والبائع في متجره والموظف في مكتبه وغيرهم في غيرها، ولعل من ألطف الكتب التي استمتع بها صاحبكم خارج محيط قراءاته المعتادة كتاب «كرة القدم بين الشمس والظل» للروائي والباحث الأورغواياني إدواردو غاليانو 1940-2015م - دار طوى، ترجمة صالح علماني، 1995م - واجتذبه فيه تحليله لرموز اللعبة وشخوص أبطالها كاللاعبين والحراس والمشجعين والمتعصبين والمرميات والحكام والمديرين الفنيين والملاعب والكرة نفسها بتأريخها وثقافات الدول حولها وممارسات الشعوذة والغش والعنف فيها، وتساءل: أتكون هي أفيونَ الشعوب بدلًا مما افترضه كارل ماركس 1818-1883م حول الدين في دراسته النقدية للفلسفة الهيغلية»؟
** الاستشهاد به هنا يعود إلى ما رواه غاليانو نفسه عن كتابه الذي أنقذ برلمانيًا مكسيكيًا من الموت بعدما اختطفته عصابة فاسدة تريد قتله لموقفه الحاسم ضدهم فعذبته حتى أوشك على الموت، وحين سمعهم يتحدثون عن كرة القدم تحامل على جراحه وصار يستدعي حكايات من كتاب غاليانو ويرويه لهم فتركوه على حاله وأمّنوه على حياته (حياة الكتابة – إعداد وترجمة عبدالله الزماي- 2018م)، وهنا تبدت قيمة اللغة في تجاوز محنة قاسية، وفي تراثنا حكايات مقاربة لمن أنقذهم بيانُهم، وفيه أمثالها لمن أودى بهم.
** التمثيل بالرياضة هنا كي لا يُظنَّ أن اللغة وعاء نخبوي مغلق، وحكى صديق بمرارة - وقد عاد لتوه من سوق الخَضراوات - كيف اشمأز من لغة أحد الباعة حتى كاد يتخاصم معه، وعدَّ «الجاحظ 159-255هـ» من المصابين بأمراض الكلام: الهمَّاز والمهذار، ولعل من ألِف ابتذال القول يدرك أنه «يغرف من ماعونه» تبرًا كان أم ترابًا؛ فأين هو من ماعون ابن المعتز؟!
** اللغةُ وعاءٌ ووعي.