د. محمد عبدالله العوين
وقعت يدي البارحة على جملة وافرة من الرسائل القديمة المحفوظة في مكان قصي من خزانتي الخاصة، رسائل خاصة وعامة؛ منها تعليق أو مدح أو قدح لما كنت أعده وأقدمه من برامج في الإذاعة والتلفزيون ما بين 1400- 1428هـ، ومنها ما هو متصل بما أكتب من مقالات، ومنها رسائل شخصية من مسؤولين وأدباء وأصدقاء وأقرباء.
مضت ساعات في هجدة ليل طويل من ليالي الشتاء وسكون ساعاته الأخيرة قبل أن ينبلج فلق الصبح وأنا أقرأ رسالة من هنا ورسالة من هناك بلا ترتيب ولا تبويب، بل بما أجده أمامي من أكوام الرسائل، وذهبت بي الخواطر والذكريات إلى ما دبجته أقلام موهوبة في الكتابة من وصف دقيق لما عاشه كاتب الرسالة، أو الاشتياق إلى لقاء قريب مع الأحباب والأصحاب بعد غربة طويلة في أرض الله الواسعة.
وجدت مثلاً رسالتين من أحد الأقرباء يرد فيهما على رسالتي سابقتين بعثتهما له في أمريكا عام 1394هـ وصفت له أحوال العائلة والمعارف في مدينتنا الصغيرة بالتفصيل، من سافر ومن حضر ومن تزوج ومن مرض ومن تخرج وماذا أحدث من مشروعات؛ كشق طريق أو إنارة شارع، وهكذا، ثم رد بشيء من التفصيل عن حياته في أمريكا وكيف تعلم اللغة وعاش مع أسرة أمريكية في البدء ثم سلك طريقه في الدراسة. ووجدت رسائل من أحد أبناء الأعمام كان منتدبًا للتدريس في اليمن عام 1395هـ وما بعده فاضت رسائله بوصف كل صغيرة وكبيرة مما شاهده وعايشه في اليمن، ويطلب مني بإلحاح ألا أقصر في إيراد تفاصيل ما حدث في غيابه، وهي رسائل لا تخلو من دعابة وطرافة وأشواق أخوية عذبة وصلة وجدانية بين قلوب نقية في زمن كان خاليًا من الملهيات والمشاغل الكثيرة واللهاث خلف التفاخر بالمظاهر، ولأنه يعلم مدى احتفائي بالأدب كانت هديته لي بعد عودته عددًا من دواوين عبدالله البردوني.
ووجدت رسالتين من والدي -رحمه الله- ردًا على رسائلي إليه، وطريقة إرسالها إليه أو رده عليها تصور المعاناة التي تحيط بذلك التواصل بين الابن وأبيه في زمن لا جوال فيه ولا إنترنت، إذا كان الوالد في صحبة الأمير محمد بن عبدالعزيز بن سعود بن فيصل -رحمه الله- راعي (جبره) يؤمه وصحبه المرافقون معه للصلاة ويقرأ عليه في ساعات الفراغ من أمهات كتب الفقه والحديث والسير في سفره للمقناص في الربع الخالي أو شمال المملكة أو قرب الحدود العراقية، أما بعد العودة من السفر فكان القارئ الملازم للأمير هو الشيخ فهد بن حمين -رحمه الله-، فكنت أتواصل مع قصر الأمير في جبره أولاً ثم في البديعة بعد انتقاله إليها لأتحرى متى تأتي إحدى سيارات الأمير لأغراض خاصة فأحملها رسالتي ومعها ما يحتاج له الوالد، ثم يرد على رسالتي مع عودة السيارة بعد شهر تقريبًا، إِذ تستغرق سفرة المقناص ما بين شهرين ونصف إلى ثلاثة أشهر... يتبع