د.فوزية أبو خالد
قلت في مقال الأسبوع الماضي أن هناك «نقاطًا نثرية خفيفة»، إضافة لما جاء فيه من نقاط تأسيسية ثقيلة، مما فيها بث وشكوى وأشواق معرفية أود اقتراحها على برنامج العمل الثقافي الحافل للوزارة الجديدة ووزيرها الشاب على ما بدر منه من بدايات مشجعة.
وطرحت لها مجموعة من الأسئلة التسخينية، إلا أنه لم يسعني في مقال اليوم إلا تقديم محاولة للإجابة على سؤال واحد منها يتمثل فيما يلي: كان السؤال ما الثقافات الغائبة والمهمشة التي تستطيع وزارة الثقافة تقديمها وتعزيزها في المجتمع السعودي؟ وجاءت الإجابة بالمحاولة التالية: هناك عدة ثقافات إما غائبة أو مهمشة مما تستطيع وزارة الثقافة إطلاق حملات وتسيير قوافل وإقامة ندوات ثقافية وتوزيع لوحات إعلانية توعوية بشأنه..
وعمل أيام في السنة بشراكات عديد من المؤسسات المعرفية لإعادة الاعتبار لها ويوجد على سبيل الاجتهاد لعدد من تلك الثقافات إلا إنني بدافع الدقة سأقوم بعرضها في عدة مصنفات.
Categories:
أولاً: ثقافات معرفية مهمشة، منها ثقافة القراءة ثقافة المتاحف - ثقافة المسرح - وثقافة المواقع الثقافية وثقافة الفنون التشكيلية فكل نوع من هذه الثقافة إما يواجه تراجعًا أو يواجه جهلاً تراكميًا.
وكل منها يحتاج إلى تصور وخطة عمل لتفعيله.
فعلى الرغم من أن أجيال اليوم قد أصبحت نتيجة للثورة التقنية من أكثر الأجيال قراءة يومية لسيل لا ينتهي من المواد الواردة عبر مختلف قنوات التواصل الاجتماعي إلا أن ذلك السيل الوابل من مادة القراءة لم يستطع أن يسد فراغ الحاجة إلى القراءة العميقة التي تربي العقل والوجدان والضمير والذائقة الأدبية وتحرض الفضول المعرفي.
أما ثقافة المسرح والفنون التشكيلية والمواقع الثقافية فلا يكشف عنها فقط غيابها في المجتمع السعودي، (باستثناء بعض مظاهر (الفنون) المستجدة بالمجتمع الثقافي ولا تعد تمثيلاً ثقافيًا بالمعنى الدقيق)، بل غياب السائح السعودي عنها في أي دولة يزورها من دول العالم إلا من رحم ربك من القلة.
ولا بد هنا من الإقرار بذلك الغياب لبحث وسائل تنشيط هذه الثقافات بالمشاركة مع المؤسسات التعليمية من المدارس إلى الجامعات ومع المجتمع الأهلي.
ففي الحي الذي عشت به في نيويورك مثلاً يوجد مكتبة عامة ويوجد نادٍ للقراءة الحرة ويوجد أكثر من مركز ثقافي لدول مختلفة كاليابان وتونس وإسبانيا.. إلخ.
كما توجد رحلات للمدارس والجامعات دورية للمتاحف وجاليريات الفنون التشكيلية.
أما بالنسبة لمواقعنا الثقافية فهي تعاني أيضًا إهمالاً مزمنًا فمن يعرف أن بالرياض مرابع قيس بن الملوح وليلى العامرية أو بيت الشاعر النابغة الذبياني في منفوحة أو دارة العلامة حمد الجاسر أو سواها من المزارات التي يمكن أن تحيا بشعرها وأدبها وعلومها.
و(هذه مجرد أمثلة ليس إلا على أرض خصبة لتعمل بها العقول والسواعد في وزارة الثقافة بالتعاون الأهلي ومع مؤسسات معرفية أخرى).
على أنه يصعب أن أختم هذه الجزئية من الثقافات المعرفية المهمشة دون مصارحة وزير الثقافة إن كان سيقرأ هذا المقال بالإقصاء التاريخي لثقافات معرفية مهمة عن الساحة الثقافية المحلية ومنها ثقافة الفلسفة وثقافة الأدب المسرحي وثقافة الفكر الحر بما يدخل تحته من ثقافات كبرى كثقافة الديموقراطية وثقافة النسوية وثقافة الشعوب الأخرى.. الخ.
وهذه الجزئية من المقال تحتاج وقفة موسعة لا يكفي المجال لها في مقال.
ثانيًا: ثقافات قانونية مهمشة، وذلك في مجالات عدة منها على سبيل الواقع المعاش..
حقوق المؤلف، حقوق الكُتاب وحقوق الكِتاب، حقوق الملكية الفكرية وحق معرفة الحقيقة، وحق التعبير وحق النقد في كتابة الرأي وغيرها من أنواع التعبير والكتابة..
وشرح هذه النقطة لا يطول لأنها تعبر عن نفسها بنفسها.
ثالثًا: ثقافات قيمية وسلوكية مهمشة، ومنها احترام النظام كالوقوف في طابور، ثقافة، ثقافة قيادة السيارة وحق الطريق، ثقافة التنافس بروح رياضية، الثقافة الصحية بأنواعها، ثقافة المحافظة على البيئة وعلى الممتلكات العامة، ثقافة الوجود على منصات التواصل الاجتماعي.
ثقافة الوقت وثقافة الضمير الجمعي والفردي، وقد يقول قائل: ما هذه الثقافات القيمية والسلوكية (المدرسية) التي يطلب من وزارة كوزارة الثقافة أن تقوم فيها بدور وهي مجرد (حفنة من المواد التعليمية).
وأقول في ذلك ما عرف عن وزير الثقافة الفرنسي الأديب جورج أندريه ملرز Malraux بأن ليس مهمة وزارة الثقافة تربية الناس ولكن مهمتها العمل مع المجتمع على وجود مجتمع ثقافي بالمعنى الأخلاقي وبالمعنى الإبداعي للأدب.
رابعًا: ثقافات اجتماعية وسياسية مهمشة ومنها ثقافة المواطنة بالمعنى الوطني وليس بالمعنى الشوفيني العنصري فيما بين بعضنا بعضًا ولا بالمعنى الاستعلائي التعصبي على سوانا من الأوطان، وأيضًا بمعنى أنك مواطن مستقل في دولة وطنية عليك مسؤوليات ولك متطلبات وحقوق قانونية ولست مجرد ابنًا مدينًا لقبيلة أو طائفة أو سواها من الانتماءات التي يجب ألا تكون على حساب المواطنة لا في ضراء ولا في سراء.
إضافة لحاجة بناء ثقافة التعايش السلمي الأهلي الداخلي بما يتخلى عن كل أنواع العنصريات والتعالى من القبلية والمناطقية إلى المذهبية والفوارق الاجتماعية المتعددة في الطبقة، اللون أو الجنس.
والحاجة ملحة لتعلم الثقافة الديموقراطية ومنها السماح بآلية الترشح والانتخاب في اللجان الثقافية وفي المؤسسات الثقافية ورفع أو على الأقل تخفيف قبضة الوزارة عن التعيينات وإعطاء مساحة للتداول الانتخابي للمواقع الثقافية والنقابية القائمة أو المزمع إعطاء تصاريح بها.
ومنها أيضًا رد الاعتبار لثقافة الريف والبادية وإنهاء القطيعة المقنعة معهما وذلك ليس كما هو حاصل بخلق واقع يجعل تلك الثقافة تلهث خلف ثقافة المركز أو تضمر وتنكفأ على ذاتها بل بإيجاد تمثيل لها وتمثلها كمعين ثقافي بحد ذاتها.
يضاف لذلك مطلب تمثيل ثقافة المقيمين على أرض بلادنا ومن يقاسموننا ونقاسمهم الهواء والخبز في مناسباتنا ومناسبتهم الثقافية مع عدم قصر ذلك على المقيم الأوروبي أو الأمريكي، بل العمل على التمثيل الثقافي والتبادلي مع كافة ثقافات المقيمين من أقصى آسيا لقلب إفريقيا وسواها من قارات يوجد لشعوبها جاليات على أرض المملكة.
وهناك فئات إضافية لا بد من رد اعتبارها في صميم العمل الثقافي ومنها فئة الطفولة ولا أعني بذلك فقط التركيز على الإنتاج الأدبي للطفل بل بناء ثقافة تحترم إنسانية الطفل.
لقد عشتُ في آيوا سيتي تجربة فريدة في ثقافة الطفولة فرأيتهم يأخذون نتاجات الأطفال الأدبية من المدارس وينشرونها على جداريات في الأماكن العامة وعلى الحافلات ومبنى البلدية ومكتبة البلد وسواها ومدينة آيوه بالمناسبة هي من المدن الأمريكية التي صنفتها اليونسكو مدينة الأدب..
هذا عدا عمّا رأيته من توسيع دائرة الوعي بحقوق الطفولة المنتشر في عدد من المجتمعات بتسطير قائمة حقوقهم في الأماكن العامة وإيجاد رفوف عريضة من أدب حقوق الطفولة في المكتبات العامة.
وليس آخرًا أضيف إلى ذلك ضرورة أن يكون في الثقافة على الأقل بتعزيز من الوزارة متسع لكل الأصوات ولكل مدارس الفكر ولتنوع الآراء والمواقف.
إذ من الخطر المؤكد سياسيًا واجتماعيًا أن تعود سيرتنا الأولى في ملء الساحة الثقافية وسواها من ساحات التفاعل الاجتماعي بصوت واحد أو بفئة دون أخرى فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
ولا بد أن نبدأ بداية جديدة تعتني بتنوعنا الحضاري وبتعدد صوتنا الثقافي، أما كيف فذلك السؤال الأقل صعوبة في تحديات عمل وزارة الثقافة اليوم إذا اتفقنا على المبدأ...
وللموضوع بقية وإن لن تكون بالضرورة في مقال قادم..