د. حسن بن فهد الهويمل
أنا - وأقولها بصراحة تامة - مسكون بنظريات:
- الغزو.
- والتآمر.
- واللعب.
هكذا بدأت ثقافتي السياسية, وهكذا أكدت لي الأحداث المتلاحقة في كل أرجاء العالم. كتب أربعة شكلت وعيي السياسي: (لعبة الأمم) و(اللعبة واللاعب) و(موسوعة قواعد اللعبة السياسية), و(انتهت اللعبة).
العالم الثالث محكوم عليه بالتبعية, شاء أم أبى, وهو لكي يكون طريدة منهكة: قابعة, أو تابعة لا بد له من أن يتلقى الغزو المكشوف, والتآمر الصريح, ولا بد أن تُدَبَّر له الخدع, وأن يُصْنع له التماكر, حتى لا يفرغ لنفسه, وحتى لا ينازع المتسلِّط بندية, وحتى لا يقرأ ما تحت السطور.
وعلى ضوء هذه الحقائق, أو التوهمات - سمها ما شئت - يأتي نشر (الوثائق السياسية) بين الحين, والآخر, مُكَمِّلاً خطوات اللعب.
تَوْقِيتُ النشر محسوب بدقة, والقضايا منتقاة بوعي, والأطراف مختارون بخبرة. لا حراك بدون هدف, ولا هدف بدون تَحَرُّفٍ.
(الوثائق السياسية) فيها الحقيقي, وفيها المزوَّر, والخليط, وفيها قطعي الدلالة, وفيها احتماليها. وطرحها في أي وقت غالباً ما يكون مؤذناً بحدث جلل.
وسائل الإعلام كـ(نار المجوس) لا بد لها أن تظل موقدة, ومن ثم يختلق الاختلاف حول مفاهيم الوثائق, ونزاهة الأطراف, لملء الفراغ بفراغ مثله.
الوثائق الحقيقية عقود, ومواثيق مبرمة بين طرفين:
- طرف في الغالب قوي.
- وآخر ضعيف.
وقد يتكافأ الطرفان: قوة, وتتكافأ المصالح عدالة. ومقتضيات الوثائق تتراوح بين مصلحتين:
- مصلحة تتمثَّل بالأخذ.
- وأخرى تتمثَّل بالعطاء.
ولك أن تتصور حجم (البينيات) وتفاوتها. الإشكالية ليست في ذات التسريب, أو الإفراج.
الإشكالية تكمن في التوقيت, وتبرز في الأهداف, وتتجلَّى في القضايا, والشخصيات.
الرأي العالمي الثالثي المستهدف خائف يترقب, ومن ثم فإن قراءته الوجلة المتوترة للوثائق المنتقاة, ستتيح فرصاً للعب أخرى, قد تُمَرَّرُ في ذروة الانشغال بقراءة الوثائق, وتقويم الأطراف, والشخوص, والقضايا.
قد يكون هناك لعبة جديدة, يراد إطلاق أقتابها, وهي لكي تكون فاعلة, فلا بد من شغل (الرأي العام), وإلهائه, لكي تأخذ اللعبة راحتها.
وقد يكون من مصلحة اللاعب تصفية السمعة لبعض الشخصيات المهمة في المشهد, أو الرفع من قيمتها. نحن لا ننكر الخيانات, ولا ننكر التآمر على مصالح الأوطان, ولا ننكر المخلصين: لدينهم, وأمتهم, وقادتهم.
ولكن الوثائق لا تكون بالضرورة مصدراً موثوقاً به لهذه الاحتمالات.
إن على المتابع أن يقرأ الوثائق بعين البصيرة, لا الباصرة, وأن يرقب المشهد بالعين الأخرى, وألا تستهلك جهده, ووقته الوثائق المفرج عنها.
الوثائق جزء من اللعبة في ذاتها, وفي توقيت الإفراج عنها, ولا يجوز الاستهانة بها, ولا القطع بتزويرها. فلكل حدث حديث, ولكل وثيقة ضوابطها.
الدول الكبرى تطرح نظريات: (الحرية), و(الديموقراطية), و(العلمانية), و(الليبرالية). ولكنها تتعامل من خلالها على ضوء مصالحها. فهي تمنح مواطنيها محاسن تلك المصطلحات, وتمنح إنسان العالم الثالث ما يتمشى مع المصالح.
هي مع (زيد) اليوم, ضد عمرو, ومع (عمرو) غدا ًضد زيد. ولها في كل ساعة شأن يخدم مصالحها, ويقوي بأسها, ويخذل أعداء مصالحها, لا تؤمن بعدالة, ولا بحق, ولا بصداقة, تؤمن بالمصلحة, والنفوذ, تدور معها حيث تدور.
فإذا كان من مصلحتها كتمان الوثائق كتمتها, وإن كان في مصلحتها إماتتها, أحرقتها.
وهي حين تفرجُ عنها إنما ترقب مصلحة تعلمها هي, ولا نعلمها نحن.
فاستقبلوها على تلك الأضواء, ولا تدعوها تغطي حراكاً يمس الأمن, والاستقرار.
القارئ الجاد, الناصح: لدينه, ووطنه, وقادته يتعرف على الصح من الخطأ, سواء أنارت الوثائق طريقه, أم لم تنر. يعرف الخونة من لحن القول, سواء جاؤوا في الوثائق: ملائكة, أو شياطين.
المشهد هو الذي يكشف السوءات: (وَمَا رَآءٍ كَمَنْ سَمِعا).
إنسان (العالم الثالث) يتجرَّع المرارات. والوثائق لن تدفع عنه غائلة, ولن تغسل خطيئةً.
هي في النهاية مؤشرات, فخذوها بحذر, وتابعوها بشك. وستجدون البعض منها يعضد مضمراتكم, والآخر يخادعكم.
وإذ تجد بعض المعلومات فيما بين يديك من وثائق, ستفاجأ يوماً - ما - بوثائق أخرى, تبلبل أفكارك, وتكاد تثير شَكَّكَ في نفسك:
(أكَاُد أشَكُّ فِي نَفْسِي لِأنَّي
أَكَادُ أَشُكُّ فِيكَ وأَنْتَ مِنِّي)
دنيا السياسة (فن الممكن) غرائبية الجزر, والمد. فكن منها على وجل.
واعتصم بحبل الله, المتمثِّل: بدينك, ووطنك, وقادتك.
(وطَنٌ لا نَحْمِيه بإصلاحِ أنفسنا, وتوعيتها لا نَسْتَحق العيش فيه).
وإصلاح النفس ألا تكون خِبّاً, وألّا يَخْدعك الخِبُّ.