عبدالعزيز السماري
من الأزمات المفتعلة في تاريخنا الحاضر والقديم هو تلك العلاقة المضطربة بين السلطة والمثقف، وهي حلقة الوصل في حالة عدم الاستقرار، أو المدخل لارتباك العلاقة بين الناس والقوة. وقد كان المأمون خير مثال على الخليفة الذي قدم نموذجًا للتطور في عصره، لكن فكرته انهزمت لاحقًا بسبب علاقته المتوترة بالمجتمع، وكان الفهم الخاطئ للقوة هو السبب، واعتقاده بامتلاكها جملة وتفصيلاً كان أيضًا خطأ جسيمًا..
كان ميشيل فوكو مؤرخًا فرنسيًّا، ومنظِّرًا اجتماعيًّا وفيلسوفًا، وكان للكتابات عن السلطة تأثير عميق على العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية. الفرضية الأساسية لعمل فوكو هي أن القوة اليوم ليست شيئًا يمتلكه عدد قليل من الناس ويمارسونه على أي شخص آخر، بل هي قوة تعمل من خلال كل مؤسسة وعلاقة في المجتمع؛ وبالتالي فإن شعورنا بالذات هو نتاج من قوة تشكيلها.
السلطة، حسب فوكو، منتشرة وغير مركزية، وتنبع من كل ركن من أركان المجتمع، وليس فقط المقاعد الرسمية للحكومة. والمقاومة هي أيضًا في كل مكان، وفي كل مكان يرفض فيه الناس التعاون مع السلطة المؤسسية أو قبول أنماط السلوك الاجتماعي الراسخة، وفي كل مرة يحاولون إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية وفقًا لمبادئ أو إيقاعات مختلفة، يقاومون السلطة.
يرتبط المثقفون المنخرطون في إنتاج المعرفة، ولاسيما المعرفة العلمية الاجتماعية، ارتباطًا وثيقًا بتشغيل القوة، ولكن أيضًا - ربما - بمقاومتها؛ وهو ما يجعل من العلاقة بينهما يشوبها التوتر. لكن ما يغيب عن الواقع أن المثقف ليس إلا مرآة لأراء الجماعة، وقدرته تكمن في صياغة الحقيقة في إطار عقلاني.
المثقفون - كما يستخدم فوكو المصطلح - هم الأشخاص الذين يزودون الآخرين بإطارات عقلية لفهم العالم وتفسيره والتفاعل معه، والعلماء والمهندسون الذين يعملون في شركات التكنولوجيا الكبرى هم من المثقفين، وكذلك مطورو البرمجيات المستقلون والمدونون الهواة والأساتذة ومعلمو المدارس والأطباء والمحامون والمعلنون والبيروقراطيون من كل صوب يمثلون شريحة الثقافة أو النخبة.
بالنسبة لفوكو، فإن الدور المناسب للمفكر هو كشف مكائد القوة وأنظمة المعرفة التي تبرر عمليات القوة أو تجنسها أو تخفيها؛ ولهذا السبب توسعت قاعدة المثقف في هذا العصر بسبب التوسع اللامحدود لأنظمة التواصل الاجتماعي، لكن الاختلاف الحقيقي يكمن في اللغة؛ فقد تحولت الساحة إلى وسائط للإشارات والرموز والبرامج، ولا يمكن على الإطلاق الحد منها إلا بقطع الإنترنت كما حدث في إيران.
في السابق عمل المثقفون كوكلاء للتغيير الاجتماعي عندما يقومون بترجمة خطابات الخبراء في القانون أو الاقتصاد إلى لغة يسهل الوصول إليها، وكانوا بدلاً من إخبارنا كيف ينبغي أن يكون العالم، يظهرون لنا أنه كان من الممكن أن يكون الأمر خلاف ذلك، لكن اختلفت الأدوار في الوقت الحاضر، ويبدو أن فكرة المثقف الفرد العضوي أو الرئيسي انصهرت في فكر جماعي تعبِّر عنها الجماهير كما يحدث في لبنان الآن..
لهذه الأسباب قد تخسر القوة عندما تضع في أجندتها محاربة الكلمة أو الفكرة أيًّا كانت خفية. والحل يكون عبر التواصل الحضاري، والقيام بدور الوسيط المثالي في المجتمع، وتجاوز الأزمات من خلال التنمية والقانون واحترام الحقوق؛ ولهذا السبب تواجه دول إيران والعراق ولبنان أزمة، وسيصعب محاربتها بالأدوات البدائية للقوة أو بحصار ونفي الأفراد.