م. بدر بن ناصر الحمدان
سبق أن زرت العاصمة الإيطالية «روما» أكثر من أربع مرات، لكن ربما هذه هي زيارتي الأولى لها بعد أن «غيرت مبادئي»، حيث أنني في فترة مضت كنت أزور هذه المدن بعين ناقدة - بحكم تخصصي وممارستي العملية - وكانت تُركز عادة على تركيبة البيئة العمرانية المبنية ومستوى كفاءة تخطيطها وتنظيمها وجودة عناصرها، إلا أنه ومع مرور الوقت بدأت أكتشف أن ذلك لم يعد معياراً رئيساً للحكم على مدينة ما بأنها «صالحة للعيش».
لقد توصلت مؤخراً لقناعة شخصية أن «صناعة الحياة» في أماكن المدن هي المعيار الرئيس لجودتها وإبراز مواطنها الجمالية مهما كان مستوى كفاءتها العمرانية، نعم تلك الكفاءة مهمة لكن الأهم هو إيجاد علاقة متبادلة بين الإنسان والمكان بأي طريقة، هذا المبدأ الذي تعلمته لاحقاً، هي مدن للعيش وليست مدن للمباهاة.
أُحدثكم الآن من منتصف السلالم (الخطوات) الإسبانية، أحد أهم الأماكن التي تحمل القيمة الاستثنائية في قائمة التراث العالمي، هذا المكان الذي يتفوق وظيفياً من وجهة نظري على معالم روما المعروفة مثل الكولوسيوم والبانثيون ونافونا وغيرها، حيث إن هذه السلالم التي بنيت عام 1725م على الطراز الروماني الباروكي من تصميم المهندس المعماري فرانشيسكو دي سانكتيز، هي مثال رائع لقدرة إدارة المدينة على كتابة سيناريو فعلي للمكان يُمكّن الناس من التعايش مع تفاصيله بأسلوب ذاتي غير موجّه.
خلق التناغم مع أي مكان يبدأ بإشراك الناس في إدراكه، فمثلا عدد الدرج التي تحتويها هذه السلالم معروفة من مصادرها على أنها 138 درجة، إلا أنه يشاع أنها 135 أو 137 درجة وهذا بحد ذاته يجعل كثيراً من الناس يقرر أن يقوم بمحاولة حسابها فعلياً بنفسه لإثبات العدد الصحيح وبالتالي يتولد ربط معنوي وحركي غير إرادي بينه وبين المكان نفسه.
كما أن محاولة مجلس بلدية المدينة لفرض غرامة تصل إلى 400 يورو نظير التصرفات غير اللائقة على هذا الدرج مثل الأكل والجلوس الطويل والنوم وجرّ الحقائب ذات العجلات على الدرج هي بمثابة لفت نظر وتعزيز الاعتبار لأهمية هذا المكان وهذا من أدوات الترويج السياحي والإيحاء بأن ما تقف عليه ليس مجرد رخاماً بل تاريخ لا يقدر بثمن.
عندما تبدأ بصعود هذه السلالم حتما ستتوقف للنظر عن يمينك إلى مكان يجسد أهم فترات حقبة الجيل الرومانسي الإنجليزي، حيث المنزل الذي عاش فيه الشاعر الإنجليزي جون كيتس والذي تحول لاحقاً إلى متحف لمتذوقي الأدب، بغض النظر إن كنت مهتماً أو لا، فإنك ستلقي نظرة.
في الطرف السفلي من الدرج، يمكنك الوقوف لدقيقة صمت أمام نافورة «باركاس» والتي تظهر على هيئة سفينة غارقة لتتعايش مع حكاية الأسطورة الشعبية التي تقول إنه لقارب صيد جُرف إلى هذا المكان خلال الفيضان الكبير لنهر «التيبر» في القرن السادس عشر، هذه خرافة ولكنها تتمتع بدراما سينمائية يحب أن يشاهدها الناس.
صناعة المكان مكّنت ساحة السلالم الإسبانية بأن تتحول إلى منصة عالمية لمتذوقي الفنون بأنواعها، ومقصداً لتصوير الأفلام، وملتقى للسكان، ووجهة للسياح، ربما لا يقارن تاريخها بعراقة تاريخ مواقع حضارة روما الأخرى، إلا أن احترافية بناء «الرواية المكانية» وضعتها على خارطة كل من تطأ قدمه العاصمة الإيطالية.
في طريق مغادرتك، ليكن اتجاهك إلى الجنوب الشرقي من موقع السلالم الإسبانية، ستمر في طريقك على نافورة «تريفي» الأشهر على مستوى العالم حيث مكان الأمنيات التي يجلبها رمي القطع المعدنية في مياهها، لعل الحظ يحالفك يوماً للعودة إلى روما ولقاء فتاة إيطالية جميلة تشاركك الحياة، هكذا تقول قصة المكان.