د.عبدالله بن موسى الطاير
أمريكا مقسَّمة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وإجراءات محاكمة الرئيس تسير بشكل متسارع، لكن لا أحد يقول إن أمريكا ضعيفة. فصل السلطات، منح الحراك السياسي مرونة ليقف نصف السلطة التشريعية ضد نصفها الآخر، وضد السلطة التنفيذية المتمثلة في البيت الأبيض. بينما بقيت السلطة القضائية، على الأقل حتى الآن، محايدة. ومع كل تلك الفوضى التي تصورها شبكات الإعلام الأمريكية، وحدة الخطاب المحتقن الذي يقسّم الرأي العام، فإن الدولة الأمريكية متماسكة، قوية والعمل اليومي كما هو ولم يتأثر بتاتاً.
مرونة الدستور الأمريكي الذي صادق عليه الآباء المؤسسون منتصف عام 1788م تعطي السلطات الثلاث التي تشكِّل العمود الفقري للدولة الأمريكية المساحة الكافية للاختلاف دون أن ينعكس ذلك على أداء ومتانة الدولة وقوة سلطانها. فالكونجرس يختلف مع البيت الأبيض في ملفات ومنها رأس السلطة التنفيذية، ولكنه يمرر الكثير من القرارات الإدارية والمالية لذات السلطة، وبعض منسوبي السلطة التنفيذية تقدّموا بشهادات سرية وعلنية ضد الرئيس وما زالوا في أعمالهم، والشعب ينتقد الجميع ولكنه لا يمس أمريكا.
وهذا يقود إلى سؤال عن التنوّع والاختلاف داخل مظلة الدولة هل يقوِّي سلطتها أم يقوِّضها؟ لا أظن أن هناك حدة في التنوّع والاختلاف كما هو حاصل حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك فإن أحداً لا يجادل في قوتها. والحال نفسه ينسحب على بريطانيا العظمى التي تمر بواحدة من أحلك حقبها التاريخية على مستوى السياسة الداخلية والعلاقة مع أوربا من حولها، ومع ذلك فإن الاختلاف، بل والخلاف بين الأحزاب السياسية، وداخل الحزب الواحد كما هو حاصل في حزب المحافظين لم يمس استقرار الدولة ولا مكانتها الدولية ولا هيبتها الداخلية.
الدول التي لا يوجد فيها ذلك التمكين المؤسساتي الذي تكفله الدساتير يمكن لها أيضاً أن تتمتع بمرونة تحفظ توازنها وتحميها عند الأزمات العاصفة. التمايز بين الدولة والحكومة هو أحد العوامل الداعمة لاستقرار الدول. رؤية المواطنين لكيانين أحدهما الدولة وثانيهما الحكومة في علاقة تراتبية وليست متوازية يطمئنهم إلى متانة البناء السياسي، ويحفظ الحقوق ويبقي لمن تشملهم ولاية الدولة أفق من الأمل والثقة في الكيان السياسي الذي ينتمون له.
العلاقة بين الدولة والحكومة، هي علاقة الكل بالجزء، فالدولة تتكون من أرض، وشعب، وسيادة وحكومة، أي أن الأخيرة تمثِّل جزءاً من أربعة أجزاء من الدولة، وتضخم الربع ليكون بمستوى الدولة يعرض الكيانات السياسية للخطر. الحكومات متغيِّرة، تأتي وتذهب بانتظام أحياناً كما في الدول التي فيها انتخابات؛ فبعد كل انتخابات عامة تتغيَّر الحكومة. كما أن مجلس الوزراء، الذي يمثِّل الحكومة في المملكة العربية السعودية، يتغيَّر عندما يعاد تشكيله بأوامر سامية، أو يعفى بعض منسوبيه ويعيَّن آخرون بذات الأوامر التي يصدرها رأس الدولة وهو الملك.
الدولة دائمة طالما أنها لا تزال تتمتع بالسيادة. الهند على سبيل المثال مستمرة كدولة مستقلة ذات سيادة منذ عام 1947، على الرغم من أنها شهدت وتشهد صعود وسقوط العديد من الحكومات على المستوى الوطني ومستوى الولايات. والحال ذاته في دول عربية مجاورة كالكويت والأردن، حيث تسجِّل الدولتان أرقاماً قياسية في عدد الحكومات المتعاقبة، ولم يؤثِّر ذلك على استقرارهما أو يمس هيبتهما داخلياً وحضورهما خارجياً. وبالتوازي، شهدنا ذوبان الحدود بين الدولة والحكومة في دول عربية هي العراق إبان صدام، وليبيا القذافي وسوريا الأسد، فدور الدولة تضخم حتى أصبحت الدولة هي الحكومة والحكومة هي الدولة وبالتالي غاب تماماً نقد عمل الحكومة، وأصبح سخط المواطن على تعثّر المشروعات الحكومية أو الخدمات أو وزراء ومسؤولي الحكومة هو مساس بسيادة وأمن الدولة، فضعفت تلك الدول وانهار بعضها وغرق البعض الآخر في حروب أهلية.
لمصلحة الدول التي ليس فيها فصل واضح للسلطات أن تبقي على مستوى واضح من تبعية الحكومة للدولة، وأن تعطي الشعوب التي تتمتع بنفس وزن الحكومات، ضمن مكونات الدولة، حق الاختلاف مع الحكومات لأن هذه هي الممارسة الصحيحة التي تحمي كيان الدولة واستقراره. إن أمريكا حتى في خلافاتها تعلِّمنا كيف تكون الدول قوية وكيف تحافظ على قوتها وقت الخلافات والاختلافات.