د.عبد الرحمن الحبيب
«تضم الأزمة السورية الحالية عددًا من الخاسرين وفائزًا كبيرًا: روسيا». هذا ما قاله ريز إيرليش مؤلف كتاب «داخل سوريا.. خلفية الحرب الأهلية وما يمكن للعالم توقعه». هناك شبه إجماع، خاصة في الغرب، بأن النفوذ الروسي يتوسع، وأن على الغرب الاعتياد عليه وأخذه في الحسبان. هذا الاستنتاج يكاد يشمل أغلبية المراقبين الذين يرون في دهاء وقوة بوتين عاملاً أساسيًا في ذلك.
«ربما يريد بوتين أن يكون إمبراطورًا، لكن روسيا ليست قوة إمبراطورية» كما كتب ألكساندر موتيل بروفيسور العلوم السياسية؛ الذي يعتقد أن بوتين وقع أسيرًا لنفس الضغوط على القادة الآخرين للإمبراطوريات السابقة: التصورات والأيديولوجيات والموروثات المؤسسية التي تؤدي إلى سياسات ليست بالضرورة في صالح بلاده. هنا، تتبادر للذهن المقولة الصارمة للفيلسوف الألماني هيغل «ما علمتنا التجربة والتاريخ هو أن الناس والحكومات لم يتعلموا شيئًا من التاريخ أبدًا، أو تصرفوا وفقًا لمبادئ مستخلصة منه».
من حسن حظ بوتين أنه جاء في الوقت والمكان المناسبين، فعندما أصبح رئيسًا للوزراء ورئيسًا، كان الاقتصاد الروسي ينتعش، وكانت أسعار الطاقة في ذروتها، مما مكنه من التصرف كزعيم قوي. بوتين يتمتع بطموحات جيوسياسية عظيمة، بينما يتخلف اقتصاده عن الركب. هذا الامتداد الإمبراطوري لا يمكنه الاستمرار لفترة طويلة، ففي المستقبل غير البعيد، سوف تشبه التزاماته المتعلقة بالسياسة الخارجية التزامات بريجينيف السوفياتي، وستصبح بعض الانسحابات ضرورية، حسب موتيل.
من هنا، ثمة من نبَّه مثل راجان مينون (بروفيسور العلوم السياسية، جامعة نيويورك) إلى أن ما يقال عن توسع النفوذ الروسي والمكاسب الضخمة التي حققتها روسيا مبني على مظاهر فخمة وأبهة مبالغ فيها ولقاءات قمة آخرها شملت 43 رئيس دولة إفريقية في سوتشي.. كلها مظاهر رمزية لا تحقق إنجازات كبيرة ولا تصمد أمام التقييم الواقعي والأدلة المادية.
بداية، فإن الناتج المحلي الإجمالي لروسيا متواضع فهو يقارب إسبانيا البلد الذي يقل عدد سكانه عن ثلث سكان روسيا؛ والميزانية العسكرية لروسيا أقل من عُشره بأمريكا، ونحو خُمسه بالصين، وأقل من اليابان. بالطبع روسيا مهمة، يقول مينون، فالدولة التي يبلغ عدد سكانها 144 مليون نسمة، ولديها آلاف الرؤوس النووية، ومليون جندي نشط، واحتياطيات هائلة من النفط والغاز، ومقعد دائم بمجلس الأمن، ستكون مهمة دائمًا، ومن الطبيعي أن تتابع بنشاط مصالحها في الخارج بطرق تتحدى الغرب؛ لكن التقييم المتوازن للنفوذ الروسي ليس مبهرًا كما يوحي الإجماع. هذا التقييم يتطلب نظرة شاملة واضحة على جانبي دفتر الحسابات: المكاسب والخسائر.
أول الحسابات من سوريا، فهي منذ عام 1956 شريك إستراتيجي لموسكو، ثم أصبح الاتحاد السوفياتي المصدر الرئيس لسوريا بالمساعدات الاقتصادية والأسلحة.. وفي عام 1971 بدأت السفن الحربية والغواصات السوفيتية باستخدام المياه العميقة في سوريا في طرطوس.. ومع ذلك، لم تتمكن القوة الجوية الروسية وحدها من تمكين نظام الأسد باستعادة معظم سوريا، فإيران ووكلاؤها دعموا الأسد لأسبابهم الخاصة وبأجندة قد تصطدم مع روسيا.. وعلى أي حال، لن تكون سوريا جائزة كبيرة حسب تعبير مينون.
كذلك فإن مكاسب روسيا في بقية الشرق الأوسط مبالغ فيها، فمثلاً في ليبيا تعد روسيا الآن مجرد واحدة من عدة دول تسعى للنفوذ هناك بالرغم من أن الجائزة لا تستحق العناء. أما الدول الكبرى بالشرق الأوسط، فإن ما وصفة مينون بحنكة روسيا الدبلوماسية أثارت الكثير من الاهتمام في السعودية ومصر وتركيا وإسرائيل، ومن المؤكد أن بوتين لعب أوراقه بشكل جيد، لكن علاقة هذه الدول أوثق مع أمريكا.
حتى الدول التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي أو تابعة لها، فإن النفوذ الروسي يتراجع فيها بل إن بعضها تحول إلى عدو مثل أوكرانيا أو مناوئ لها مثل بولندا، بالرغم من أن بعضها الآخر لا يزال يدور في الفلك الروسي بسبب الإرث السوفييتي.. يقول مينون: «كشفت التطورات في آسيا الوسطى أيضًا عن سطحية رسم روسيا بوتين كدولة تسير من انتصار إلى آخر. في هذا الجزء من العالم، الذي كان بالسابق جزءًا من روسيا الإمبراطورية ثم الاتحاد السوفيتي، فإن الصين حجَّمت التفوق التاريخي لروسيا، إن لم تكن حلت محله..».
أما في إفريقيا، فالقصة ليست أفضل حالاً بالنسبة لروسيا التي تحتاج إلى قفزات حادة لتصبح لاعبًا رئيسًا فيها، ففي التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر، فإن وجودها قد طغت عليه الصين وأمريكا وأوروبا والهند. فمثلاً، بلغ إجمالي التجارة الروسية نحو 3 مليارات دولار عام 2017، مقارنة بنحو 55 مليار دولار للصين (مينون).
الخلاصة أن الروس مصممون على جعل بلادهم عظيمة مرة أخرى، وهذا من حقهم لكن حقائق التاريخ والجغرافيا السياسية توضح أنه لا يمكن للدول الاستمرار على نفس النهج والسياق المصلحي طوال فترة وجودها التاريخي، لأن الدول والمناطق المحيطة بها تتغير دائمًا. ربما نجحت روسيا دبلوماسيًا وظهرت بمظهر الدولة العظمى كالسابق، لكن لا يبدو أن لها نفوذ دولة عظمى مع اقتصاد ترتيبه العالمي خارج الدول العشرة الأوائل فيما تتقدم عليها العديد من الدول بالتطور التكنولوجي (خاصة الذكاء الاصطناعي) الذي يعد المفتاح الأساسي للنفوذ في عالم اليوم..