عبد الرحمن بن محمد السدحان
يعرض هذا المقال مقتطفات من رسالة كنت في زمن مضى أعددتها بلسان أب يؤرقه القلق والحنين لابنه المبتعث للدراسة في إحدى ولايات الغرب الأمريكي، يبث من خلالها بوحًا من الثقة في ابنه، والشوق إليه، ثم الخوف عليه من صروف زمانه ومكانه.
* * *
* وأحسَبُ يَقينًا أن هناك آلاف الآبَاء والأمهات في وطننا الحبيب يؤْرَقُهم الشَّوقُ والقلق والحنين إزاء أبناء وبنات لهم حَمَلتْهم أجْنَحةُ الطّمُوح إلى دِيَار الغُرْبة البعيدة، يحرِّضهم على ذلك الخوف على فلذات أكبادهم من فتن تلك الديار البعيدة، وملذّات الحسِّ والهوى بها مما يُنكره الخُلقُ القويم!
* * *
وهذه مقتطفات من رسالة الأب إلى ابنه، حيث قال:
أبْدأُ بحَمدِ الله الذي كَلأَك بعونه، وأيَّد خُطاكَ بتوفيقه، وأدعوه مخلِصًا أن يملأ حياتك قوةً وأمنًا وتحصيلاً مُفيدًا.
* * *
* لقد غَمَرتَني بِبرّكَ الحنُون من خلال سطور رسائلك الحميمة منذ وطأت قدماك أرض الغربة، فَأوقدتَ في نفسي ونفس والدتك الحبَّ لك، والثَّقةَ فيك، والرضا عنك، وحمَدْنا الله على برّك بنفسك، وبنا معك، فإنّ في عصْمة الذَّات وحَقْن الهوى في الأرض التي تَقْطنُها بِرَّا لنا نحن والديك وإخوانك وآلك جميعًا!
***
* أبني الغالي: لقد صَدَقْتنَي ما وَعدْتَني به، فلم يخبْ ظنّي فيكَ أبَدًا.. كنتَ كعهدي بكَ منذ زمن طويل ابْنًا صابرًا صادقًا وجادًا وأمينًا، في قولك وفعلك، وتلك يا بُنيَّ صفاتُ عزَّ وجوُدُها لدى بَعض فتية هذا العصر.. من أقرانك!
* * *
* أي بنيّ: إنَّني أب تتقاسمه الأشْواقُ والهواجس والظُّنون بسببك، رغْمَ كلِّ الحبِّ لك، ورَغْمَ كلَّ ما تَعْنيه أنتَ لي، فالأرضُ التي أَنتَ بها تَشْكو منظُومةً من الفتن، الظَّاهر منها والمسْتَتر، وفي مُقدِّمتها فتنة الهوى، ولهذه الفتنة سلطان يغْشَى القَويَّ من الناس قبل الضعيف، وينالُ البريءَ قبل المذنب، ولها من يروّجُها ويزيِّنُ سبُلَها، وأخشَى أن ينالك منها بلاءٌ فتشقى أنت به، ونشقى به نحن معك!
* * *
* دعني الآن يا بنيّ أفصحُ لك عمَّا يجيشُ به الخَاطرُ نحوك، فأقول:
أولاً:
* إحْذَرْ فتنة المخدَّرات بأشكالها وأحجامها وجُنُونها، فلا يكادُ يخلو من وبالها منزل أمريكيّ، ولا يكاد ينْجُو من شَرِّها المستطيرُ فتىً ولا فَتَاةُ، وإياك وعقدة التبرير التي تدفعُك إلى تقليد بليد يقودُه المثَلُ السَّائدُ هناك: (إذا كنتَ في روُما فأفعلْ ما يفعلُهُ الرُّومَ)! تذكَّرْ أنَّ لك شخصيةً تعكسُ كَرامَة الإنسان وحُرْمة الدِّين وقُدْسية الوطن الذي تنتمي إليه!
* * *
* المخدرات يا بنيَّ جادةٌ سريعة ذات اتجاه واحد بدْءاً بالانحراف وانتهاءً بالسقوط -والعياذ بالله، قد تتخذُ من أساليب الإغراء والإغواء فنونًا، لكنها شرٌّ، وإثمها أعظمُ من شرِّها، أولها عبث، وأوسطها إدمان، وآخرها خراب، أو هو الموت على دفعات!
* * *
ثانياً:
* احْذَرْ يا بُنَّي رفْقَةَ السُّوءِ، وصَدَاقةَ القَلَق والعَبَثَ والضَّياَع، فقد يكون من بين أقرانك في الدِّراسة مَنْ لا تَخْلُصُ لهم سَريرةٌ، ولا يَصدُقُ عنهم ظَنّ، ولا يَحْسُنُ بهم طبْع، لكنَّهم يعملون جَادين أو هازِلين لاقتناص فئات من ذوي القُلُوب الطاهرة إلى شِرَاكِهم ليُرْضُوا بذلك هَوىً في النَّفْس لا جَدْوى فيه ولا طَائِل من ورائه.. ابْتَعِدْ عن هؤلاء، وعاشرْ من زملائك والآخرين معك خَيارَهُم: عَقْلاً وإيمَانًا وعِلْمًا!
* * *
ثالثاً:
* أعلم يا بنيّ أن لك مستقبلاً زاهرًا - بإذن الله - يترقَّبُ عودتك، فاحرص ما استطعت على إنجاز مهمتك، وعد إلى أهلك ووطنك لتبدأَ فيه (ملحمةَ) حب الوطن عَمَلاً وإنجازًا وصولاً إلى الدور الذي ترجوه ونرجوه معك ولك! احرص - وفقك الله - ألاّ تُخْلِف لنا ولك ظَنًّا ولا موَعْدًا! واللهَ أسأَلُ أن يُبلِّغكَ خَيْرَ ما تريدُ ويُجَنِّبَك شرَّ ما لا تريد.
* * *
رابعاً:
* اتّق شَرَّ فَتَاة تُظْهِرُ لك الحُبَّ، وتُبْطنُ لكَ الوقِيعَةَ والمكر والابتَزَازَ الماديَّ والعَاطِفي، وما أكثرُهن في تلك الديار، تدعُوك إلى نَفْسِها، لتُحَملِّك بعد ذلك أوْزَارًا لا تَقْوىَ على حَمْلِها، وتُغْوِيكَ عن مَسِيرةِ الجِهَاد العِلْمِي التي تُكرِّسُ نَفْسَك من أجْلها وفي سِبَيلها، وأعْلمْ أخيراً أنَّ هناك فرقًا بين الحُبِّ والنَّشْوةِ، بَين الصَّداقةِ البَريئةِ والسُّقُوطِ في الهَاوِية!