د.ثريا العريض
لا أعرف متي حمّلتني إرث عينيها.. ولكني وجدته يتّقد في صوتي: قومي ما استفاقوا بعد.. فهل يستفيقون إذا نبهتهم.. قبل حريق الهشيم وتشتت القبائل؟
قلت: «يؤرقني أبداً همس الشجر لزرقاء اليمامة..
في حفيف نخل الخليج أحلم أن تجد اللغة من ينقش صبوة دمنا على أوراق الشجر العربي..
هنا.. حيث أقف..تراودني غمغمة النخيل الصادية.. أو هناك.. حيث تقف يا قارئى.. يترامى الصدى في ترجيع نهنهة الصفصاف الباكي أو غمغمة الأرز المهجور.. أو حتى وشوشة السرو للحور للزيزفون عند بوابات الجامع الأموي أو جامع الكتبية أو الجامع الأزهر أو دار الحكمة..
كله شجر حي يتحرك حفيف ظله الصامت في شرايين العشق العربي.. ويحترق في التشظّي العربي.. ويتخفّى وراءه ألف وجه مقنّع بسحنة ابن عم عربي.. أو غير عربي..»
خلت أنني قلت هذا فما سمع أحد.. وترك القوم الشجر ومن ورائه يصل حتى خدور الصبايا.. وعلى وهج الحريق هامت «فاختة» شاردة في البراري.. صامتة تحاورني عن أسى يشعل القلب هشيمًا.. وانتهيت معها في غيبوبة سبات رحيم.. خلته يحاصرنا بالوجوه الكئيبة والأيادي القاتلة تمتشق سيوفاً تترصد كل نأمة صدق في العروق..
اقتنعت أن الصمت منجاة وأن المنقذ لن يكون مشقوق اللسان أو يخطب برطانة عميل مأجور.
وما هاجرت فاختة، يمامة القلب، من عشها المحترق.. ظل هديلها مؤبد الصمت في كوابيس صوتي وصمم الآخرين..
البارحة استنهضني صدى فاستفقت..:
«لك ما أردت.. لعينيك ما تشاءان..
وللأوطان من كل العاشقين من عينيك شعرًا تحدو به الحداة..
ومن أجل أن تعيشي..
وأن يبقى حلمنا حيًا.. لا بد أن تموت الأشجار..»
زرقاء.. يا زرقاء.. أعيدى لليمامة أجنحة الحلم..
هديلي يفاجئني..
اليمامة البرية لا تتفيئ ظل سيف..!
ولكني أراه بعيني زرقاء .. حساماً ما امتشقته يد ملوثة بالقصد لتئد دفء الصوت.. ما جاء غازيًا يبحث عن رنين خلخال أنثى يستبيها.. لا يسترخصها، إذ يستبيح ابتساماتها خيالاً يستمطره في مواسم الجفاف..
أراه بعينيها بدويًا همامًا، وفارسًا أصيل الإباء أثارت نخوته أحزان امرأة ما رفعت صوتها تهتف «وامعتصماه».. شفيف كسيف الصدق، ثابت الالتماع كنجم القطب، حميمًا كنجم سهيل يلتمع صداه:
زرقاء يا زرقاء اليمامة.. أعيدى لليمامة أجنحة الحلم العربي..
و ها هي مولودة من جديد لها خفق أجنحة وهديل..