د. فهد بن علي العليان
يكتب صاحبكم من وقت إلى آخر عن (الإِنسان)، واليوم يجد حروفه من حيث لا يشعر تتوجه للكتابة عن (المكان) الذي جمعه بزملاء مضوا في طريق حياتهم وبقيت ذكراهم وذكرياتهم في قلبه وذاكرته. وعندما أرسل الصديق وزميل الدراسة في المتوسطة الأخ محمد المحيميد - «مساكم الله بالخير، سمعت أن الأخ محمد الصانع سيقيم لقاء حارة العنوز في مزرعتهم بطريق الخرج بعد غدٍ الأحد إن شاء الله» - فقد أعاد صاحبكم لما قبل أربعين سنة بالتمام والكمال، فحين أنهى دراسته للمرحلة الابتدائية في مدرسة زهير بن أبي سلمى في حي الصالحية عام 1400، انتقل مع أسرته للسكن في الفيلا الجديدة التي تكبر بيتهم الصغير بأضعاف المساحات وذلك في (حارة العنوز).
في تلك الحارة، أكمل دراسته في متوسطة الأمام أحمد، وتعرف وقتها على معلمين فضلاء، وزامل أصدقاء كثيرين بقيت علاقته ببعضهم إلى هذا اليوم، وبعضهم دخل في دهاليز الحياة، ويتمنى أن يلقاهم ويسعد بهم ومعهم. وفي تلك الحارة، كانت الروابط بين الجيران قوية ومتينة كما هي في ذلك الوقت بين الناس كلهم في كل المدن والأحياء حيث النقاء والصفاء والمسؤولية.
لا يزال اللقاء تلك الأيام بزملاء الحارة وأصدقاء المتوسطة حاضرًا في ذهن صاحبكم بكل التفاصيل، حيث المسرح المدرسي يقوده الأستاذ عبدالعظيم بكل اقتدار، والإذاعة المدرسية والأنشطة الطلابية المتنوعة ودوري كرة القدم وكرة اليد بقيادة مدرس التربية البدنية (عيسوي).
وإن نسي فلا ينسى مدرس اللغة العربية الأستاذ عبدالرحمن، ولا مدرس العلوم الأستاذ عبدالكريم، ولا الأستاذ إسماعيل بدوي الذي يتذكره كل طلاب المتوسطة إلى هذا اليوم بسطوته وبطشه.
تمر كل هذه الذكريات وغيرها كثير، ويتذكر تفاصيل مبنى المدرسة الذي يتألف من مجموعة من الفلل المتجاورة على شارع الثلاثين الرئيس الذي يمتد شرقًا وغربًا في الحارة، ويقع على ذلك الشارع العديد من المحلات التجارية والمكتبات القرطاسية حينها كان صاحبكم يقضي وقته يتصفح الجرائد والمجلات ثم يذهب للشارع المجاور ليبقى وقتًا ليس يسيرًا في المكتبة التي يقودها الرجل الأنيق اللطيف (مهدي) الذي يأذن لمن شاء أن يتصفح المجلات بأنواعها، فسلام عليه أينما كان.
ثم إنه يتذكر تفاصيل ما بعد الخروج من المدرسة وما يراه من بهجة تعلو وجوه الجميع، حيث يرتحل إعداد من الطلاب مع بعضهم على سيارات، والبعض الآخر يذهبون مشيًا على الأقدام، فأقوام يتجهون لبعض البقالات، وآخرون يجوبون الشوارع بسياراتهم قبل الذهاب للبيوت لتجتمع الأسرة الكبيرة على وجبة الغداء قبل أخذ قسط من القيلولة ثم التوجه لصلاة العصر.
وبعد صلاة العصر، يكون مجموعة من أبناء متوسطة الإمام أحمد على موعد مع ممارسة الرياضة (الوحيدة) المفضلة وهي كرة القدم، حيث فرق الحواري المتعددة التي ينتمي إليها الكثيرون وبينها منافسات جادة وحادة تبدأ في المدرسة ولا تنتهي في ملعب الحارة، بل تعود كل يوم وكل أسبوع. استمرت علاقة كثير من هؤلاء واستمر تواصلهم في المرحلة الثانوية وما بعد ذلك، إِذ تربطهم إلى هذا اليوم لقاءات مودة تزداد عبر السنين.
لا يستطيع أخوكم في هذه العجالة وصف كل ما كان يدور في الحارة التي أحبها ساكنوها ولا تزال ذكريات الجوار باقية في نفوسهم، وبقيت في نفوسنا ذكريات المدرسة والدراسة والحي ولقاء الزملاء الذي أحياه زميلنا الفاضل وأخونا الغالي (محمد الصانع) الذي تولى هذا الموضوع قبل سنوات، وتشرف أخوكم وسعد بحضوره مساء يوم الأحد 6 ربيع الأول 1441، الموافق 3 نوفمبر 2019.
في الطريق إلى مكان الاجتماع مزرعة الفاضل (أبو عبدالرحمن) كان يدور في ذهن كاتب هذه السطور أشياء كثيرة: الزمان والمكان والإِنسان، الزمان قبل أربعين عامًا، والمكان حيث الحارة الكبيرة في عيون ساكنيها، الإنسان وهم الزملاء الذين غاب أغلبهم منذ ذلك الوقت.
كانت النفس تتوق وبشوق إلى اللقاء، وكانت اللحظات تمشي بطيئة حتى دخلت السيارة إلى المزرعة بصحبة مجموعة من أصدقاء تلك المرحلة الذين بقوا على اتصال وتواصل، توقفت السيارة ومشينا على الأقدام نتتبع الأصوات، وحينها قابلنا مضيفنا محمد الصانع وصافحنا قلبه قبل أن تصافحنا يمناه، رحب بنا كثيرًا ثم غاصت أجسادنا في وسط الحضور نسلم على هذا الزميل ونتذكر ذلك الصديق، فمررنا عليهم جميعًا والذكريات تعود والذاكرة لا تخون، حتى استقر كل واحد في مكانه والجميع يسمع بصوت عال ترحيبات (أبو عبدالرحمن) ثم ننظر في محياه وإذ به مبتهج وفرح وسعيد بهذا الاجتماع والحضور.
الجميع كان يلهج بالدعاء لمضيفنا إِذ تسمع بين وقت وآخر دعوة تتلوها دعوة لمن كان سببًا في هذا الاجتماع، وبعد أن تحدث الجميع وتعارفوا وابتهجوا، دعاهم إلى العشاء وهم يرددون كذلك: (أغناك الله يا أبا عبدالرحمن ورزقك من واسع فضله).
انتهى اللقاء، ولم ينته الشوق للزملاء الكرام الذين جمعتهم (الحارة) وبقيت قلوبهم تحن إلى الاجتماع ما بقيت أنفاسهم في الحياة.
وهنا، لا ينسى صاحبكم ما بقي في حياته ذلك الرجل الذي هو أول من أخبره عن لقاء الحارة وواعده أن يذكره باللقاء القادم، لكنه غاب عن دنيانا قبل أن يلتقيا، فرحمة الله وغفرانه لأخينا غنام الغنام.
في ذلك اللقاء، جالت في خاطره ذكريات متنوعة عن بعض الأسماء من مديري المتوسطة ووكلائها ومعلميها الفضلاء الذين التقاهم حين كان طالبًا، وجمعته ببعضهم الأيام بعد ذلك. فتحية لمديرها القائد التربوي الذي بقي يتذكره طلابه الأستاذ أحمد الغليقة الذي لم يسمح لصاحبكم بالتسجيل في المتوسطة لأنه تخرج من المدرسة الابتدائية وهي ليست تابعة للمتوسطة، مما ألجأه للذهاب إلى مدير التعليم مع والده ليجدا المدير ويكون الاتفاق على التسجيل ثم يغادر المدير إلى متوسطة أخرى قبل أن يحظى بمعرفته عن قرب، لكن سمعته التربوية جعلت صاحبكم يلتقيه بعد ذلك مقدرًا بذله وحرصه. وهنا تحية سلام وتقدير لأستاذنا العزيز راشد الدغيم الذي كان حريصًا على التعليم والتربية في أن واحد، وقد زرناه قبل عامين ونحن مجموعة من طلابه في تلك الفترة فاستقبلنا في بيته مبتهجًا وفرحًا مسرورًا، ففرحنا وسعدنا به ومعه.
ومن الأسماء التي بقيت وكيل المتوسطة الأستاذ صالح العويد الذي جمع بين الحزم ومحبة الطلاب، وذلك لمتابعته الدقيقة لأحوال الطلاب ولحرصه على مصلحتهم.
ويعتذر أخوكم عن ذكر بقية الأسماء لأنها كثيرة، وهم جميعًا فضلاء أحسنوا إلى طلابهم تلك الفترة برغبة صادقة ومودة عالية حتى وإن اختلف معهم طلابهم!.
ما أجمل تلك الأيام وما أروع تلك الأسماء التي أسهمت بالتربية والتعليم معًا، ويبقى ذلك (المكان) متوسطة الإمام أحمد اسمًا بارزًا في عالم أبناء الحارة لن ينسوا تفاصيل أيامه التي عاشوها معًا داخل المدرسة وخارجها.
وقبل الختام، تحية تقدير وإكبار لأخينا صانع البهجة (محمد الصانع)، والشكر له لا ينتهي على كل شيء، شكرًا لقلبه الطيب وابتسامته التي لا تغادر وجهه.
ولكل الذين لقيناهم بعد سنوات، دعوات بالتوفيق والحياة السعيدة إلى أن نلقاهم في الاجتماع القادم لتعود إلينا ذكرى متوسطة الإمام أحمد وذكريات (حارة العنوز).