د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ليس من اليسير تحديد التاريخ الذي تعود إليه الكتابة على الجسد، والأغراض التي تسعى لتحديدها، أو الوظائف التي تطمح للقيام بها، بيد أن «الوشم» يعد من أقدم الأنواع في الكتابة على الجسد بما يتميز به من دوام يجعله يتجاوز الكتابة إلى أن يصبح جزءًا محفوظًا منه، أو يمكن القول ان يصبح تبديلاً للجسد إلى الصورة التي يكون عليها بعد الوشم.
ولعل هذه الصفة الخاصة به جعلته يقوم بوظائف متعددة يتجاوز في كثير منها مسألة الزينة التي يطمح بعض الناس بها، إلى أن يقوم بوظائف خطيرة تتمثل بتمييز الشخص من جماعة من الناس أو بيان انتمائه إليها، أو بيان اعتناق ملة من الملل، أو التأثر بأسطورة أو سحر.
بيد أن الوشم ليس الطريقة الوحيدة للكتابة على الجسد، فالأدوات التي يستعملها الناس للكتابة على أجسادهم متعددة، وتختلف وظائفها باختلاف سياقاتها، وأنواعها. وسواء كانت هذه المادة المكتوبة كلمات أو رسومات، أو خطوطًا وأصباغًا، فإن إمكانية قراءتها وتحليلها يجعلها ضربًا من الكتابة تستوي بذلك مع ما كانت دلالتها مباشرة ككتابة الألفاظ والمفردات أو غير مباشرة كالصور والتلاوين، وما كانت وظيفتها دينية أو استشفائية أو للزينة.
ويندرج تحت هذا ما تطور من أدوات زينة المرأة من الأصباغ والتلاوين، تصبغ بها وجهها وعينيها، وتتوخى فيها أن تبعث في الرائي الاستحسان والإعجاب بدراجته المتفاوتة.
حتى وإن كانت في الأصل محاكاة النموذج، الذي تطمح المرأة المتزينة أن تشبهه أو تكون عليه، وهو الجميل، فعندما تضع المرأة الحمرة في وجنتيها، فذلك بناء على فكرة على أن تورد الخدين علامة من علامات الشباب والصحة والنضارة وهو أمر جميل، كما أنه يدل على ما يعتمل في نفس الفتاة من مشاعر عمادها الخجل وما يستدعيه، وهو ما تسعى لأن تتصف به أو تعطي وجنتيها صفة الأثر في النفس الذي يجلبه تورد الخدين للناظرين.
وقريب منه ما يقال عمّا تضعه المرأة في شفتيها، ويسمى بأحمر الشفاه، وهو استدعاء للحمرة المحببة في الشفتين، وتوحي بالشباب والصحة، كما يدل ازهاره على ما يدل تورد الخدين عليه من مشاعر، وإن كان قد لا يستقر على لون تبعًا للون الظاهر في الشفاه وترغب المرأة في تأكيده أو إخفائه.
في حين تأتي خطوط الكحل التي ترسم على الرموش لمحاكاة الطرفين الكحيلين، لسد النقص الذي أحدثه انحصاص الرموش منهما، وتأكيدًا على أن الرموش الكثيفة السوداء هي الجميلة بما تحدثه العيون المتصفة بهما من أثر كبير في النفوس، ونظراتها أن كانت حادة أو ناعسة.
كما تأتي طريقة وضع الخطوط أن داخل الحدقة أو خارجها، أو مساوية للعين أو ممتدة عنها في الطول لتحدث إيهامًا في سعة العين، ما يؤكد القول بجمال العينين الواسعتين، ومحاولة لنيل هذه الصفة أو الإيهام بها، أو لإخفاء ما يشعر به صاحبها من ضيق وصغر.
وكذلك تزجيج الحاجبين ورسمهما بالأقلام الخاصة بهما محاكاة لصورة يأتي عليها الحاجبان محبوبة لدى الناس، ومعدودة في الجمال المنشود، وإبعادًا لما يصيبهما من النمص الذي يزيل حدود محاجر العينين، فلا تصبح ملامح الوجه واضحة، أو مألوفة تستقر عليها العين فلا تفزع.
وأما البودرة البيضاء وما يماثلها من معاجين تبيض بها الوجوه، فهي محاكاة لنموذج يرى الجمال في البياض، ويسعى لتحقيق صفاء البشرة ورونقها بإخفاء ما يعتريه من نكت أو بثور، ويزيد من تحقيق البياض للبشرة بصورة تظهر فيها تورد الخدين وحمرة الشفتين، وينفى معها أن يكون الجمال في سواه حتى ولو كانت فيما لا يعد بالبياض البين كالسمرة الخفيفة.
فالذي يتعاطى هذه الأدوات يقوم بإعادة رسم الوجه المزين (بفتح الياء)، وتنظيمه على صورة استقرت إما بوعي المزين (بكسر الياء) أو بالوعي الجمعي للنموذج الجميل، فهو يؤكد الملامح التي تقربه منه، ويخفي الملامح الأخرى التي تبعده عنه. ومن هنا نقرأ في هذه الكتابة (التزيين) ملامح فلسفة الجمال الاجتماعية التي تقوم على الشباب والنضارة والفتنة في نموذج الجمال التقليدي الطبيعي الفطري، وما يدل عليه من مشاعر لدى الجميل كما يرسمه المخيال الشعبي في المقام الأول، دون اعتبار للمقاييس المختلفة للجمال باختلاف الثقافات، أو الأعمار أو المقامات، وهي في غالبها تتخذ من الانجذاب الجنسي (الجسدي) أساسها الأول الذي تنطلق منه وتنتهي إليه، وتعتمد عليه في تحديد الجميل من سواه، أو بصورة أخرى تعتمد على موقف الآخر في الحكم ما تراه الأنا جميلاً.