عبد الرحمن المعمر
فجع الأدب وروعت الثقافة وحزنت الصحافة لما أعلن خبر وفاة الاستاذ الدكتور عبدالرحمن بن صالح الشبيلي، الذي لا أجد شيئًا أصفه به سوى أن أقول إنه العالم الشامل الذي جمع كل الفنون، يكتب في السير ويكتب في التاريخ ويكتب في الأدب ويكتب في الجغرافيا والبلدانيات. ماذا أقول بعد أن سمعت الخبر المحزن والفاجع، فقد استدارت بي الأيام ورجعت بي السنين إلى أكثر من 60 عامًا لمَّا لقيته أول ما قدِم إلى الرياض من مدينة عنيزة الفيحاء ـ بعد أن أخذ الشهادة الثانوية من المعهد العلمي ـ للدراسة في كلية اللغة العربية وذلك في مطلع الثمانينيات الهجرية أوائل الستينيات الميلادية، ومن حسن الصدف أنه سكن غير بعيد من منزلنا في حي الملز في منزل أحد أعمامه وهو الشيخ محمد العبدالرحمن الشبيلي الملقب بـ(الخال) بين أسرته.
حين لقيت أبا طلال في تلك الأيام الخوالي كان في عنفوان شبابه، تعرفت عليه وأنست به وصرت ألقاه في بعض الأحيان، فشدتني شخصيته وثقافته وأدبه وتأدبه، وقد عبرت عن كل هذا في مقال نشر لي قبل سنين في ملحق الجزيرة الثقافية التي ـ كان وما زال ـ يشرف عليها الصديق الدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن التركي، ولا بأس من إعادة بعض ما كتبته في ذلك المقال الذي عبرت فيه عن إعجابي بأبي طلال. وقد اتصل بي ـ أعلى الله منزلته ـ بعد نشر المقال كأنما هو يعتب ويقول إنه لا يستحق ما كتبته، فقلت له هذا بعض من حقك وبعض من وصفك فإن الشمس إذا قلت إنها تشرق أو القمر إذا قلت إنه يضيء فأنت لا تضيف شيئًا لهما فإن من طبيعة الشمس الإشراق ومن طبيعة القمر الإضاءة. كان عُزُوفُه عن التكريم رغم استحقاقه له، وهُرُوبُه من الأضواء رغم وهجه وتوهجه، وبعده عن التصدر رغم جدارته وكفاءته، سمة من سماته، وقد كرمه الله وزينه بحسن الخلق وجمال الأدب والسمت، فهو أينما ذهب أو حل وارتحل زينة المجالس بأدبه وحسن إنصاته إذا سكت، وحديثه إذا تكلم. كان غفرالله له متعدد المواهب، محبوبًا من جميع الأوساط، لا يبخل بالمعلومة على أي إِنسان، متواضعًا لا وضيعًا، كبيرًا لا متكبرًا، فصيح العبارة واضح الكلمة، لطيف المعشر لا يحب المشاحنات ولا المناكفات لقد برأه الله من عيوب الكثير من البشر، لا يغمز في ظهور الناس ولا يلمز، وقد صدق الصديق اللواء الشاعر عبدالقادر كمال في وصفه لأخلاق الفقيد:
ولقَدْ شَهِدْتُكَ يا نَبيلُ مُنَزَّهًا
تَأْبَى السُّقوطَ بِحَمْاةِ النَّعَراتِ
مُتَرَفِّعًا عنْ زَلَّةٍ وخَطيئةٍ
مُتَنَزِّهًا عن حَوْبَةِ الشَّهَواتِ
أنْتَ الحَليمُ إذا تَصّدَّى جاهِلٌ
تُغْضي حَياءً عنْد كُلِّ هَناتِ
ولقدْ عَرَفْتُكَ عالمًا ومُعَلِّمًا
ولقدْ رأيْتُكَ سَيَّدَ النّدَواتِ
رأيت المرحوم الشبيلي تلك الأيام وهو يختلف إلى الدرس يتردد على الكلية ودار الإذاعة القديمة بشارع الفرزدق يجمع بين الدراسة والعمل والتمرين، كان من أوائل من التحق بالعمل في الإذاعة ثم في التلفزيون والتدرب عليهما ثم تقدمت به الحياة وتدرجت به الأعمال ترقى سلالمها وصعد درجاتها حتى أصبح وكيلاً لوزارة الإعلام وأستاذًا في الجامعة ثم وكيلاً لوزارة التعليم العالي ثم عضوًا في مجلس الشورى، كان بين ذلك ينشر في الصحف ويخرج الكتب يؤرخ للخالدين وكبار الشخصيات من الراحلين، اطلعت على طائفة صالحة من منشوراته واجتمع عندي عدد من مؤلفاته (إهداء منه وفضل) تصفحت أكثرها وتأملت بعضها ووقفت عند ريادته للإعلام وعمادته للتعليم وكيف بشر في أوائل مقالاته بنهضة الإعلام ثم أنذر في أواخر أطروحاته بتدارك التعليم، كتب حول كثرة المؤتمرات والصرف عليها بلا نتيجة تذكر أو فائدة تذخر، دعا مبكرًا للاهتمام بالسياحة وأنها عامل اقتصادي مهمًا لأن موادها الأولية لا تحتاج الاستيراد ومنتجاتها لا تتعبنا بالتصدير، وهكذا العشرات من الأفكار الجيدة والطروحات الرائدة، ألم أقل لكم من قبل أنه رائد لا يكذب أهله وسابق لا يدرك شوطه وسابغ في طول تجاربه وممارساته، يريد الإصلاح ما استطاع ويرغب في الخير أنى اتجه.
قد كنت للإعلام شمس ضيائه
أيام كان العسر والإقتار
وسما بك التعليم لما زنته
وأريته كيف العقول تدار
ومضيت للشورى فكنت بهاءها
بِرؤاك كم فاضت لها أنهار
ماض ودربك كله أنوار
أنى اتجهت كأنك الإسفار
ماض وتحمل في يديك مشاعلا
هي هكذا ياسيدي الأقمار
رحم الله أبا طلال فقد كان صاحب جَلَد وصبر على البحث والدراسة والوصول إلى الحقائق والوثائق في مضانها، يتنقل بين محافظات البلاد ومناطقها يلقي المحاضرات ويشارك في الندوات فتكون مشاركته أو محاضرته هي القلادة التي يتزين بها الحفل، وآخر مناسبة حضرتها له لما عقدت ندوة عن حياة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي العالم النحرير والسلفي الجهير وصاحب التفسير الشهير علم الإعلام في عصره، ومن تلاميذه الأجلاء الكبار الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام والشيخ محمد الصالح العثيمين وغيرهم. في تلك الندوة عقب أبو طلال على محاضرة الدكتور إبراهيم التركي بأنه كان أي الدكتور الشبيلي والدكتور عبدالله الغذامي من أصغر تلاميذ الشيخ عبدالرحمن بن سعدي. وقال: إنه لما كان في عنيزة لا يتحرك إلا عبر ثلاثة محاور: المنزل ودكان والده ودرس الشيخ عبدالرحمن بن سعدي، وقد استفاد من دراسته عند الشيخ ثم في المعهد العلمي فأحاط بالدراسات الدينية ثم الأدبية ثم اللغوية والتاريخية وهكذا..
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى
وعقلا وتأديبًا ورأيًا مسددا
كنت كثيرًا ما أتشرف بزيارته أنا والابن بندر الذي يحمل لأبي طلال الكثير من التقدير وكنا نأنس بجلسته ونستفيد من علمه ومعلوماته ويتلطف بإهدائنا آخر مؤلفاته. وكلها مما يعتز به، وآخر ما أهدانا كتابه (مشيناها) ولعله أراد في هذا الكتاب أن يعبر ويحبر محطات من حياته وبداياته في عنيزة ودراساته في الرياض وأمريكا وسيرته الوظيفية والعلمية في الإذاعة والتلفزيون والإعلام والجامعة ووزارة التعليم العالي ثم في مجلس الشورى مع إضاءات ولمحات عن أسرته وبعض ما مر به في حياته. وقد أعجبت بأسلوبه ومنهجه في تناول سيرته وطريقته في تسطير الكتاب وتماسك معلومات هو الإحاطة بما جاء فيه.
في حكاية ذاته أرخ لمسقط رأسه عنيزة ومجتمعها وأسواقها ومزارعها وبيوتاتها وموروثها وكتاتيبها وبدايات التعليم النظامي بها كما أرخ للرياض ومشاهد من حياة أهلها قبل أكثر من نصف قرن، ثم أرخ للإذاعة والتلفزيون وتأسيس وزارة الإعلام والمراحل التي مر بها الإعلام السعودي وعضويته في المجلس الأعلى للإعلام، ثم عرج على مراحل عمله في التعليم العالي ومؤسسة الجزيرة ومجلس الشورى ومجلس الأمناء في الشركة السعودية للأبحاث، ثم رحلته مع التوثيق والتأليف والإنتاج وحياته الخاصة. كانت حكايته حكاية كفاح ورحلة ألم وأمل، لكنه كان راضيًا بما كتبه الله له متصالحًا مع ذاته، كبيرًا مع من أساؤوا له ونقلوا الوشايات عنه، وفيًا لأصحاب الفضل معترفًا بما قدموه له، حتى الذين اختلف معهم لم يغمطهم حقهم، مترفعًا عن سقط القول وسفاسف الأمور. إنها أخلاق الكبار التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم. وقد تلطف -رحمه الله- قبل سفره الأخير واستجاب لدعوة ابن العم الأخ إبراهيم بن عبدالله المعمر الذي كان أحد زملائه في وزارة التعليم العالي وشرف حفلًا أقامته له أسرة آل معمر بمناسبة صدور الكتاب في بلدة سدوس وقد احتفي به الحضور احتفاءً كبيرًا وحضر هو وحفيده عبدالرحمن بن طلال وآخرون وتجولوا في البلدة القديمة ثم اتجهوا إلى مكان الاحتفال في مزرعة العم عبدالله بن إبراهيم بن معمر. وقد كانت تلك الجلسة من الجلسات التي لا تُنسى فقد أفاض فيها أبو طلال بأدبه وعلمه وفضله، وكأنها كانت زيارة مودع كما كان كتابه وحكاية ذاته حكاية مودع.
كان -رحمه الله- رجلاً مباركًا، بورك له في الوقت فهو منظم ومرتب، يذكرني رغم مشاغله الكثيرة بالفقيد المرحوم الدكتور غازي القصيبي، ينتج وينشر، لا يتأخر عن موعد ولا يتخلف عن واجب، وهناك أناس كثير مع الأسف وأنا أحدهم لديهم فراغ ولكن لا يستغلونه فيما يفيد، أسأل الله أن يعينني وأمثالي لنسير على سيرة أبي طلال في الترتيب والإنتاج والإخراج.
لقد تأخرت، لظروف خاصة، في رثاء هذا الصديق العَلَم وأنا الذي عرفته منذ القدم، رأيت بداياته عن قرب وراقبت نجاحاته عن بعد، فماذا أقول وماذا أدع:
ماذا أقولُ؟ وفي لَهاتي غُصَّةٌ
مَمْلوءةٌ با لحُزْنِ والآهاتِ
ماذا أقولُ؟ وفي فُؤادي مَأْتَمٌ
يَنْداحُ بِالغَصّاتِ والعَبَراتِ
ما أَنْصَفوا إِذ أَوْدَعوكَ إلى الثَّرَى
مَثْواكَ في الأكْبادِ والنّبَضاتِ
وبعد فإن في العين عبرات وفي القلب لوعات وفي الصدر زفرات، وإني على فراقك يا أبا طلال لمحزون... غفر الله لك أيها الفقيد الكبير ورفع درجتك وأعلى منزلتك وجزاك خير الجزاء على ما قدمته لبلادك وأهلك، وأثابك على جهدك المميز في التأريخ لإعلام وأعلام هذا الوطن، وجبر مصابنا بفقدك وخلفك علينا بخير......
مازلت يا رجل المروءة حيا
في قلب صحبك بكرة وعشيا
إني أراك أمام عيني ماثلا
سمحا تقيا صادقًا ونقيا
يا سيدي والحب أنطق خافقي
فسكبت حرفي بالشعور نديا