«الجزيرة الثقافية» - محمد هليل الرويلي:
أراهن أن لا أنثى عنيت بأدبها، مثلما عنت به ضيفة هذا العدد. فلطالما أضناها الوجد، وأسرج غيرتها المهقاء، قابِسًا كوَانِين تموسقاتها أضواء في عوالم الفاطِمُ. هلا أخبرتموني أي أديبة صمدت أكثر من عشر سنوات. مَا ذرَتهَا رَامِسات السنون، وما أفجعتها زَأْمَة ليلة غاسقة.. تَدَرّعتْ «البلوية» روحها الاستثنائية، وغذّت عقلها وجلّدتهُ بسرَابِيل الصبر مُقتفية آثار (نساء من أرض مدين) في تلك الأرض. قاست المسَافات بنَفسِهَا. مشيًا على الأقدام، وعلى ظهور الجمال. بين الوديان والمواقع، كي تروي بصدق أحداث «نسوة»، كُنّ قبل ثلاثمائة سنة. وكم أفجعها قُرب اندثار قصصنا الشعبية. فكان ثمن هذا القلق الارتحال والأسفار. أمضت أكثر من خمس سنوات أخرى في منطقة تبوك تسأل كبار السن. وتوصّلتْ لهجر وقرى في مناطق وعرة موحشة.
وكيف لا أراهن أن ضيفة زاوية (ذاكرة الكتب) الروائية والباحثة والقاصة فاطمة البلوي، استثناء سيرة ومسيرة في التجربة القرائية وعالم الكتب، وهي يوم أن كانت طفلة أمسكت بـ«عقلة الأصبع» و«الزير سالم» وهي قاتلة الفراغ في المنطقة الصناعية النائية، ثم مضت متأثرة مع كل الشخصيات التي عاشها «البؤساء»، «ألف ليلة وليلة» دون مراقبة أو توجيه من الكبار.
أما في زمن الفتوى المحرمة، فسيطر عليها شُعور الحزن، حتى وقعت على (رياض الصالحين). بعدما استوقفها، سؤال لماذا خلقنا؟ فخافت أن يكون مصيرها النار، وستر الله عليها قبل أن يضيع، (الصنم الذي هوى).
بينت الروائية والباحثة «فاطمة البلوي» بأنها تعلّقتُ بالكتب والقراءة الحرة منذ الطفولة، إِذ كان كتاب (عقلة الأصبع) أول كتاب تقرأه من سلسلة قصص المكتبة الخضراء التي كان يحضرها لنا والدي -رحمه الله-، ومنها رسخ في نفسي حب القراءة واستهواني شغف البحث عن كتب أخرى أملأ بها وقتي، لما نعيشه من فراغ قاتل في ذلك الوقت الذي أجبرتنا وظيفة والدي أن نعيش في منطقة صناعية نائية. قرأت (كليلة ودمنة) ثم أبهرني كتاب (ألف ليلة وليلة) إِذ وجدت فيه سعة الخيال، بالرغم من أنه يتضمن أحداث ومواقف لا تليق بقراءة وخيال طفلة، لعدم وجود مراقبة أو توجيه لنوع الكتب التي تناسب سني.
وقالت «البلوي»: عند بلوغي سن المراهقة كان شغف القراءة قد نما معي، فبدأت أبحث عمّا يرضي تطلعاتي فساعدتني مكتبتنا المنزلية المتواضعة، حيث بدأت اتجه للروايات، فكانت (البؤساء) أول رواية أقرؤها ولشدة إعجابي أعدت قراءتها عدة مرات، فكنت أعيش مع الشخصيات والأحداث وحالات البؤس التي عاشوها، وتبعتها بقراءة (مرتفعات ويذرنغ)، ثم (اللص والكلاب) لنجيب محفوظ وهي أول رواية عربية أقرؤها، ثم جذبتني قصص السيّر فكانت (السيرة الهلالية) وتبعتها بسيرة (الزير سالم)، استمتعت بقراءتها لما تحويه من خيال واسع. حينها كنت في المتوسطة.
إلى النار لا محالة.. بالصدفة (رياض الصالحين)
وتابعت: وفي هذه المرحلة كثرت الفتاوى الدينية حتى رأيت منها في منظوري البسيط ولصغر سني بسبب الكم الكبير من الفتاوى التي تحرم كل شيء من غير المؤهلين للفتوى، أن مصيرنا النار لا محالة، وأن كل ما نقوم به حرام، فانتابني شعور بالحزن وسؤال عذبني كثيرًا: لماذا خلقنا؟ ولما لا نفعل ما نريد في الدنيا ما دمنا سندخل النار في الآخرة؟ ووقع كتاب (رياض الصالحين) للنووي بيدي بالصدفة، فقرأته قراءة كاملة وبتمعن، فوجدت فيه ما هدأت به نفسي من بعض التساؤلات التي أشغلتني في بعض تصرفاتنا اليومية، وهو كتاب دخل روحي وقوّم أخطاء فكرية كادت أن تودي بي، وتأكَّدت بما احتواه من أحاديث نبوية شريفة أن الله رؤوف بعباده رحيم.
تجارب شيوعية وسعت مداركي في سن مبكرة
بدأت في المرحلة المتوسطة استعير الكتب من مكتبة المدرسة فكان كتاب (الصنم الذي هوى) تأليف ستة من كتّاب الغرب تحدثوا فيها عن تجاربهم في الشيوعية، وهو أول كتاب استعيره، فأخذ معي وقتًا طويلاً، وقرأته مرتين لصعوبة استدراكي لمحتواه نسبة لسني، لأنه يتكلم عن العصابات والشيوعية في الاتحاد السوفيتي، وهو ما وسع مداركي الفكرية في سن مبكرة، إلا أنه سُحب من المدارس في وقت لاحق.
أعدت (الصنم الذي هوى) وتوسعت في سيرة الرسول
وزادت: كاد كتاب (الصنم الذي هوى) أن يضيع مني لولا ستر الله، فأعدته للمكتبة المدرسية وقررت أن أشتري الكتب لحسابي الخاص فكان كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير أول كتاب أشتريه لاحتوائه على قصص تاريخ البشرية الذي يسرق لبّي أثناء قراءته، تتالت بعدها مشترياتي للكتب الثقافية الدينية، وسيرة الرسول، وسيّر صحابته، وبدأت أتوسع فقرأت في كتب التاريخ والشخصيات التاريخية بأزمانها المختلفة، ثم بدأت بشراء الروايات، وأمهات الكتب، حتى لتجد في المكتبة المنزلية عدة نسخ من كتاب واحد ككتاب (مقدمة ابن خلدون) الذي احتفظ بثلاث نسخ منه في المكتبة، كذلك كتاب العقد الفريد الذي احتفظ بنسختين منه، وبعض الكتب الأخرى.
(السعلوة بين الحقيقة والخيال) في تبوك
وحول تجربتها مع الموروث الشعبي وإصدارها الأول أوضحت الأديبة فاطمة البلوي: ألفت أول كتاب بالموروث الشعبي (السعلوة بين الحقيقة والخيال)عندما تيقنت من قرب اندثار قصصنا الشعبية لأسباب كثيرة، فقررت أن أجمعها، وقد أخذ مني البحث في جمع القصص الشعبية جهدًا كبيرًا ووقتًا طويلاً في منطقة تبوك، تخطى الخمس سنوات، أجمعها من مصادرها من كبار السن، فتطلّب ذلك مني سفرًا دائمًا، والدخول في مناطق موحشة ووعرة، لتسجيلها، وقمت بعدها بتهذيب القصص وكتابتها بأسلوب أدبي تم نشره في جزأين.
مشيت وراء (نساء من أرض مدين) عشر سنوات
ثم ألفت أول رواية (نساء من أرض مدين) التي أخذت مني الكتابة فيها أكثر من عشر سنوات، وقفت على المحيط الجغرافي الذي وقعت فيه الرواية بجبالها، وصحرائها، وآثارها، ووديانها، وموانئها، وآثارها، وعادت المجتمع وتقاليده، وقمت بقياس المسافات بين الوديان والمواقع بالمدة في حال السفر بالجمال وسيلة المواصلات في ذلك الوقت أو المشي على الأقدام، وزرت الأماكن التي وقعت بها الأحداث، لتكسب الرواية مصداقية في طرحها الأدبي من جميع الجوانب.
تطلَّب مني ذلك الخروج بسيارة تتحمل وعورة البيئة الجبلية، وقمت بدراسة تاريخ المنطقة وتاريخ الأمة العربية وما وقع فيها من أحداث تاريخية في ذلك الوقت، تخطيت العوائق الاجتماعية والبيئية بمساعدة ابن خالتي (علي سليمان البلوي) وهو ذو ثقافة عالية وعالم جيد بجغرافية وعادات وتقاليد وتاريخ المنطقة، ما يجعلني أقدم نجاح هذه الرواية له.