قيل إنه أثناء الحرب العالمية الثانية اكتشف الألمانيون (النازيون) جاسوسًا بريطانيًّا كان متخفيًّا بينهم بهُويّة ألمانية وكان يتحدث الألمانية بطلاقة. افتضح أمره عندما كانوا في أحد الحانات الألمانية وقام الجاسوس البريطاني بطلب ثلاثة مشروبات من النادل رافعًا أصابعه السبابة، والوسطى، والبنصر.
وهي طريقة استنكرها الألمان!
فهم عادة يشيرون للعدد ثلاثة برفع الإبهام، والسبابة، والوسطى.
الحقيقة أن مدى إتقان لغة شعب ما يحدد مدى التفاعل السطحي معهم، لكن مدى الإلمام بثقافتهم يحدد مدى ترحيبهم بالفرد ومدى القدرة على التكيّف معهم والانخراط معهم والأهم من ذلك كله القدرة على خلق تواصل ناجح مثمر معهم.
استكشاف ثقافة وحضارة مختلفة هي تجربة ثرية وممتعة لكنها أكثر تعقيدًا مما يتصوره البعض. يظن البعض أن رحلة سياحية لبضعة أسابيع لدولة ما قد تكون كفيلة بأن تسمح لهم بالإحاطة بثقافة هذه الدولة أو الحكم عليها، بينما الحقيقة أن لأغلب الأماكن غير المألوفة -لاسيما السياحية منها- قشورًا براقة وأصباغًا جذابة وأهازيجَ رنانة توقع مرتاديها تحت سحر الانبهار وحلاوة التجديد، لا يرى إلا وجوهًا باسمة وألوان مبهجة وتجارة رائجة؛ لدرجة أن البعض يتمنى لو كان من سكان هذه البلاد.
في الحقيقة إن تعريف الثقافة اصطلاحًا من قبل العلماء العرب أنها «مجموعة من العلوم والمعارف والفنون التي يتطلّب الحِذْق بها -أي: الإلمام والمهارة بها- وتختلف ثقافة كل مجتمع عن الآخر»، أما تعريفها من ناحية العلماء الغرب فتُعرَّف بأنها «الكُلُّ المركب الذي يحتوي على الفنون، والعقائد، والأخلاق، والمعارف، والقوانين، والعادات التي يورثها الأفراد من مجتمعهم».
استكشاف ثقافة مختلفة هي بالضبط مثل رحلة تعلّم لغة جديدة أو دراسة علم جديد تحتاج إلى وقت وصبر، بحث واطلاع، مثابرة و التزام؛ لتتضح الصورة الحقيقية، وتتجلّى الغشاوة للتعرّف على الإيجابيات الحقيقية التي تستحق الإشادة، وكثير من السلبيات التي تحتاج إلى فهمها للتعايش معها، والتي قد تدفع الكثيرين للتمسك بأوطانهم، علمًا أن أدق الوسائل للتعرف على الهوية الحقيقية لبلدٍ ما ليست من خلال مقاعد الدراسة أو السياحة، ولكن الانخراط في سوق العمل، الإحاطة بالتاريخ والإرث، بالعادات الرسمية وغير الرسمية، باختلاف العادات والتقاليد من مناطق مختلفة في نفس البلد، والأهم الإحاطة بأن لكل شعب عقلية وطريقة تفكير مختلفة تؤثر على طريقة تحليلهم للأمور وتؤثر على انطباعاتهم ووجهات نظرهم؛ وبالتالي ردات فعلهم، وهو ما يعرف بعقلية الثقافات (intercultural mindset).
فمثلًا العبارات المتشابهة في ظاهرها تحمل مضامين مختلفة من بلد لآخر مختلف، فعبارة (لابأس/It’s OK) عندما تسمعها في الثقافة الأمريكية من رئيسك في العمل عندما تستأذنه بالانصراف من الدوام في وقت مبكر- تعني غالبًا (لابأس، غادر، لكن لن يتم إعفاؤك من العواقب) وغالبًا ما سيتم احتساب ساعات تغيب.
في ثقافتنا غالبًا تعني (لا بأس، وسيتم إعفاؤك من العواقب) ما لم يتم الاستطراد في الحديث وقول: «ولكن سيتم احتساب ساعات استئذان». وعن عقلية الثقافات أشارت إيرين في كتابها (هذه ليست الإنجليزية/That’s not English) إلى ضرورة إدراك الفرق بين اللباقة البريطانية والأمريكية في اللقاءات الأولى مع الغرباء؛ فاللباقة البريطانية تعني فرض حدود بتجنّب الابتسامة المفرطة، المزح، والمدح، في حين تعني اللباقة في الثقافة الأمريكية في مثل هذا النوع من اللقاءات أن تكون أكثر انفتاحًا وتوددًا مع الآخرين بالابتسامة والمزاح والإطراء.
باختصار «أنْ تتعلم أيَّ لُغة شعب باحترافية، تَعني أنْ تُحيط بثقافتها»
** **
- رفيدة آل حمد