أي حراك جماهيري في التاريخ والجغرافيا تقوم به فئة الشباب بالدرجة الأولى. كما أنه؛ أي الحراك؛ هو نتيجة الاحتقان المتراكم بسبب عجز السلطة السياسية عن تلبية متطلبات التغيير. وعادة ما يبتدئ الحراك «عفوياً»؛ وكلمة «عفوي» لا تعني السذاجة بكل تأكيد، ولكن هل بقيت تلك الكلمة تحمل نفس المعنى منذ ثورة العبيد التي قادها سبارتاك في القرن الأول قبل الميلاد؟
الذي لا شك فيه أن الحراك الجماهيري قد تطوّر عبر السنين توازياً مع تطوّر المجتمعات كافة، بل تطوّر البشرية جمعاء. والحراك الذي يبتدئ عفوياً قد يفشل في البداية لأنه «عفوي»، ولكن ما إنْ تنخرط فيه «قيادة» يتحول إلى «ثورة». فالحراك «العفوي» الذي يطالب بتحسين الظروف المعيشية، والذي اجتاح أوروبا في عصر النهضة والتنوير، تحول بمساعدة «نخبة» من الجهابذة؛ مثل مونتسكيو وجان جاك روسو وغيرهم؛ إلى ثورة أحدثت التغيير في أوروبا والعالم أجمع. وهذا يدل على ثلاثة حقائق رئيسية هي: أولاً- أن الحراك «العفوي» يتحول إلى «غير عفوي» إن وجدت قيادة. ثانياً- أن الحراك في أي مجتمع كان؛ لا يخص ذلك المجتمع لوحده؛ بل يخص العالم كله، وخاصة في مرحلتنا الحالية بعد توفر الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي «اللحظية». ثالثاً- أن القمع ليس قادراً على لجم التغيير.
معنى «عفوي» الذي ساد عبر التاريخ هو: أن الحراك الجماهيري يرفع شعارات مطلبية محدودة وليس له قيادة «متبصرة». فهل ينطبق هذا المفهوم على الحراك الجماهيري المندلع في كل بقاع العالم في عصرنا الحالي؟
خلال القرن الماضي استطاع الرأسمال فصل «النخب السابقة» عن الجماهير الشعبية. وحاول ويحاول فصل «النخب» الحالية؛ حتى لو كانت بعناوين دينية؛ عن قيادة الزخم الجماهيري. ولكنه لم يستطع لجم ذلك الزخم أو «العنفوان» لدى الجماهير الشعبية المطالبة بالتغيير! وذلك لأن الحراك «العفوي المطلبي» لم يعد كذلك، بل تحولت «العفوية» إلى معنى أرقى من أن يفهمه قادة المافيا الرأسمالية أو شعراء «الكبة النية والتبولة» المطبّلين لهم، حيث يصنع الحراك قادته في الميدان. وبالرغم من اندلاع الحراك في كل البقاع بسبب الظروف المعيشية المزرية، إلا أن الجماهير تطالب بالسيادة الوطنية، ومحاربة «الفساد» أو النهب الاستعماري المنظم لثروات الشعوب، وإيقاف التعامل مع صندوق النقد الدولي، والاستقلال الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي عن المافيا الغربية.
الوسائل القمعية وإشعال الحروب بأنواعها وإثارة الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية وما إلى ذلك؛ أصبحت ذات تأثير جزئي محدود؛ وغير قادرة على لجم الحراك. لم يبق أمام المافيا سوى وسيلة واحدة؛ ربما تنجح في إيقاف التغيير؛ ألا وهي «تسفيه الحراك» وزرع اليأس والإحباط في نفوس الجماهير الشعبية الغاضبة.
الأساليب المتبعة لتسفيه الحراك هي: أولاً- شل الوعي بإشاعة أن الأيديولوجيات قد سقطت. وليس المقصود هنا أن «الأيديولوجيات» وحدها قد سقطت وحسب، إنما سقط الفكر البشري كله منذ هابيل وقابيل والصراع الدائم بين الظالم والمظلوم، ولا يوجد إلا سبيل واحد؛ وهو الاستكانة للقدر المحتوم، فالآفاق مسدودة! ثانياً- تسليط مرتزقة لحرف الحراك عن وجهته وتحويله إلى حرب أهلية. ولكن ماذا ستفعل المافيا برجل دين يطالب بإلغاء الطائفية والمذهبية وإنشاء الدولة المستقلة عن إرادة الاستعمار؟ فمثل هذا لا تستطيع اتهامه بالشيوعية! ثالثاً- مجابهة الحراك بالرصاص الحي إذا لم يخنع ويستسلم.
جيل الشباب المغرم بنمط الحياة الأمريكي، والمأسور فكرياً بأوهام الفوارق الدينية والعرقية، التي أشاعتها المافيا طوال التاريخ. هذا الجيل الذي فقدنا نحن الإيمان به؛ يصبح بكل فخر؛ أداة التغيير؛ ولا يقبل أن يكون إمعة!
** **
- عادل العلي