الكرم من أعظم ما افتخر به العرب. وفي حين اقتصروا في ذكر الكرم على بذل المال فإن له صورًا أخرى، يعظم أثرها بعظمة بركتها، وفي تحقق حاجتها؛ فقد يكون بذل العلم، والوقت، والجهد الفكري والبدني أعظم أثرًا وأبلغ وقعًا في النفس.
كانت مجلة جامعة الإمام توزع نسخًا منها في فرعها في القصيم، وكنا نحن الطلاب وقتئذ ليس لنا نصيب من هذه النسخ، ولكن الحصول عليها ليس صعبًا؛ فما أكثر الزاهدين فيها، من غير المهتمين والمعنيين. كنت أحصل على نسخة منها كلما صدرت. قرأت بعض بحوثها التي لا يزال بعضها عالقًا في الذهن حتى اليوم؛ فاستهواني النشر فيها؛ فجعلته هدفًا قريبًا! وفي الفصل الثاني من السنة الثالثة (المستوى السادس) من دراستي الجامعية شرعت في العمل على بحث في آراء شيخ الإسلام ابن تيمية في النحو منطلقًا مما أثر عنه من تخطئة سيبويه المزعومة، حتى أتممته بعد بضعة أشهر، ثم عرضته على رئيس القسم آنذاك أ.د. إبراهيم بن صالح الحندود؛ فطلب مني مهلة لقراءته.
لم تطل المهلة كثيرًا، ولكنها أنتجت تقريرًا مفصلاً، بلغ تسع صفحات محكمات. هذا التقرير لم يعده ليقدمه إلى هيئة علمية، أو جهة أكاديمية، أو ليؤدي من خلاله واجبًا وظيفيًّا، أو يرجو من ورائه نفعًا ماديًّا، وإنما ليقدمه لطالب من عامة الطلاب، ليس بينه وبينه سابق معرفة، لا من جهة التدريس ولا غيره.
إنه كرم النفس، وبذل العلم، والحب الصادق للنفع.
استفدتُ من ذلك التقرير فائدة كبرى؛ فأثرى البحث وأثر فيه، في شكله، ومنهجه، ومادته، وهيَّأه لما أُريد له. أمضيت في تعديله وقتًا ليس بالقصير.
ومع هذه الصفحات التسع فقد كنت إلى الاستزادة متشوفًا؛ فعرضته على أستاذ آخر راجيًا منه تقريرًا مثل تقرير د. إبراهيم، غير أنه لم يعدني بشيء.
تجرأت، واتصلت برئيس تحرير مجلة جامعة الإمام، وكانت وقتذاك جامعة لجميع التخصصات، وأبلغته بأن لدي بحثًا أريد نشره؛ فطلب مني نسخًا منه، فأرسلتها شافعة لخطابِ طلب، ذيلته باسمي، وبمستواي الدراسي.
لقد كان رئيس التحرير يومذاك أ.د. عبد الله بن عبد الرحمن الربيعي، وقد استقبل البحث غير ناظر لمن كتبه، وتعامل معه تعامُلا مهنيًّا منصفًا؛ فدفعه إلى إجراءات التحكيم، كغيره، فأجيز للنشر، مع ملحوظات عدَّلتها مباشرة.
وفي حديث جانبي بيني وبين الأستاذ الآخر الذي عرضت عليه البحث أخبرته بأنني أرسلته لينشر، فعاتبني على الاستعجال، وصرَّح بأن في البحث ضعفًا، وأنه لم يقسم تقسيم البحوث؛ فلا فصول ولا مباحث، وإنما تسرد المسائل سردًا، ولا يرقى للنشر.. بهذا صرح، من غير تورية ولا تعريض، وربما كان محقًّا في قوله.
نُشر البحث - ولله الحمد - وكان الرأي فيه جماعيًّا؛ فلا تتسلل إليه مجاملة ولا شبهتها؛ فقد منح نشره مزيدًا من الثقة، وصار - ولله الحمد - مفتاحًا لخير بعده، تعود بركته إلى الأستاذين الفاضلين الحندود والربيعي. أما صاحبنا الآخر فلم تكن ملحوظته صادرة إلا عن نصح محض، طبّقه على نفسه قبل أن يتفوه به؛ فقد كانت شخصيته تنشد الكمال المطلق، وأنَّى لذلك أن يتحقق. كان دقيقًا حذرًا، مضى عمره لم ينشر من عمله شيئًا، ولم ينل من الترقيات حظًّا، مع كونه متمكنًا من فنه، متقنًا إذا كتب، عميقًا إذا تكلم، لكن الطبع غالب. يقول لي في حديث بيني وبينه: عندي بحث في كذا، وآخر في كذا. قلت له: ولماذا لا تنشرها؟ قال لا بد من التريث، وإعادة النظر؛ فقد يُنشر وتكثر عليه الملاحظات!
ومَن يسلم من الملحوظات والانتقاد؟!
مَن يبالغ في حب الكمال، ويكره الانتقاد، ويتهيّبُه، كثيرًا ما يُحرم من الإنجاز، ويُثنى عن التقدم والإبداع، ويظل متواريًا بين الآلاف من عامة الناس.
وبعد مُضي قرابة عشر سنوات من نشر البحث، وفي أيام دراستي للدكتوراه، سألني أحد أساتذتي الفضلاء سؤال المقرِّر لا المستفهم: نشرت عندنا بحثًا حينما كنت طالبًا جامعيًّا؟ قلت: نعم، ولِما أُكِنه له من محبة، ولما شعرت به في سؤاله من الغبطة، استرسلت، وليتني لم أفعل؛ فقلت: أحد المحكمين كان دقيقًا ومنظمًا، وصل تقريره مطبوعًا، ومذيلاً بجدول واضح، والآخر كان من صفحة واحدة، بقلم الرصاص، لم أستفد منه كثيرًا. قال: أنا صاحب الرصاص!
فلا تسأل عن مقدار الحرج الذي وقعتُ فيه، وكان درسًا قاسيًا في بيان فضل الصمت، وسوء عاقبة الهذر والثرثرة.
** **
- أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم