للألوان لغة خاصة قليل من يتقنها، هي من تلك القلّة، فقد كانت علاقتها بالألوان قوية منذ صغرها، كانت تمسك بقلم رصاص وترسم دوائر مثلثات، مربعات، أشكال ترتسم في مخيلتها فترسمها، وتقوم بتعبئتها بألوان مختلفة، لا يهم أن يكون القمر أخضر، والشمس زرقاء، المهم امتلاؤها بلون مختلف يبعد الفراغ الذي بداخلها، هي لا تحب مطلقاً أن يكون أي كائن حي أو جماد بلا لون لأنه يفقد حضوره في هذه الحياة، حتى الماء، الذي يُجمع الناس بأن لا لون له، ترى أن له لون غير مرئي، بل إنه أكثر ما في الوجود تعبيراً من خلال اللون، فالبحر وإن كانت زرقته طاغية، ولكن قد يتغير لونه فنجد الصفاء عند شواطئ البحر، ونجد الدكنة والقتامة في المحيطات.
العلاقة بالألوان نابعة من حب للرسم، منذ طفولتها، كان يذهلها تدرج اللون الأسود ليصل إلى منطقة الرمادي في الوسط لتكون نهايته البياض، ولتعرف أن في داخل كل كائن لونان متناقضان، الأبيض والأسود، كانت تخاف أن يكون الأسود طاغياً، ولو حدث ذلك ستسعى لأن تبحث عما هو جميل في الأسود.
لم تتجاوز كراسة الرسم المدرسية، لا تريد أن تتسع المساحة لتتوه، لذا فقد كانت ترجئ الشروع في رسم لوحات كبيرة، كانت تتخيل مجموعة من اللوحات، تحفظ تفاصيلها، لفنانين عالميين، تفكر أن تقلدها، من الذاكرة، ولكن تتراجع، وتتجه لكراسة الرسم لتفرغ شحنات الإبداع بمساحة ضيقة، تجمّعت لديها كثير من «الاسكتشات» سبق أن رسمتها عبر سنوات ماضية، ترى أنها مختلفة، ويقول من اطلع عليها، إنها متميزة، بل مبهرة، لكنها لم ترغب أن تحولها إلى لوحات وتقيم معرضاً أو تشارك في معرض للفنون التشكيلية، ولم تفكر أن تستخدم وسائل الإعلام الجديد للتعريف بنتاجها، لا تريد أن تفرط بفكرة لوحة واحدة، تريد أن تبقيها لديها، فثمة علاقة خاصة تربطها مع كل رسمة، جميعها رائعة في نظرها، ولا تريد أن يأتي من يبحث عن خلل بها.
قد يكون مثلها مئات بل آلاف في العالم، قد تكون هي الوحيدة التي لا تفكر مطلقاً بمصير لوحة يستغرق وقت رسمها عدة أشهر، لتوقع عليها اسمها في الركن مع تاريخ إنجازها، هي ترى أن جميع لوحاتها تمثل تعرية لمشاعرها في أزمنة مختلفة من عمرها، وحسبها أن تضج كل رسمة بكل تلك المشاعر من فرح وحزن وكآبة وألم وسخرية وذهول ولا مبالاة، لذا عندما تعرضها فهي تفضح نفسها، وبكل تأكيد هي لا تحب الفضيحة. هي تحلم.. أن يكون لها بيت كبير، تختار مكاناً هادئاً مطلاً على حديقة ليكون مرسماً لها، هي تحلم أن تكون الألوان التي تحيط بها مبهجة، هي تعرف أن الأسود احتل مساحة كبيرة من حياتها، وعلى الرغم من ذلك تسعى لتزيينه بالبياض، كل من حولها يعي حجم مأساتها، لا علاقة ذلك بفقدان النظر، فهي ترى، ولكن ما تراه مختلف تماماً، كرسوماتها، هي ترى العجز والبؤس الذي يحيط بها، بأسرتها، في زمن لم يفرق الناس فيه بين جمال الربيع وكآبة الخريف، حين فقد الجميع لغة الألوان، عندما فقدت وطنها وتحول منزل الطفولة والحي الذي كانت تلعب به إلى كتل من التراب، وبدأت تعيش الشتات لتكون جزءا منسياً يقبع في مخيم، محاطة بالبياض الذي أصبح لونه أسود.
** **
- عبد العزيز الصقعبي