د. عبدالحق عزوزي
أنشئ الحلف الأطلسي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وفي عز الحرب الباردة، ورأينا مع مرور السنوات التكيف المستمر الذي تعرفه هياكله لمواجهة التحديات الأمنية الأوروبية والمتوسطية والدولية اللامتناهية. إلا أن التصريح الأخير الذي أدلى به أحد الفاعلين الكبار في الاتحاد الأوروبي وفي الحلف العسكري الأطلسي، الرئيس إيمانويل ماكرون عن «الموت السريري» للحلف، في مقابلة نشرتها مجلة «ذي إيكونومست»، ذائعة الانتشار، وقبل شهر من قمة يعقدها الحلف في لندن مطلع ديسمبر، أخرج إلى الوجود حقائق لا تقال في العلن، وهو ما أثار ردود فعل مباشرة وقوية حتى من أكبر حلفائه، وأعني بذلك ألمانيا، إذ انتقدت المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل هذا الحكم «الراديكالي»، وقالت في مؤتمر صحفي مع الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ «لا أعتقد أن هذا الحكم غير المناسب ضروري، حتى لو كانت لدينا مشكلات، حتى لو كان علينا أن نتعافى». من جهته، قال ستولتنبرغ إن الحلف ما يزال «قويًا» مؤكدًا أن «الولايات المتحدة وأوروبا تتعاونان معًا أكثر مما فعلنا منذ عقود». أما موسكو فرحبت طبعًا بتصريحات ماكرون على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا التي كتبت على صفحتها في موقع فيسبوك، «إنّها كلمات من ذهب. صادقة وتعكس الجوهر. إنه تعريف دقيق للواقع الحالي لحلف شمال الأطلسي».
فلا جرم أن التصريح غير المسبوق الذي أدلى به الرئيس الفرنسي، وهو يعي تكتيكيًا واستراتيجيًا ما يقوله، في بيئة أمنية دولية معقدة، تحتاج إلى واجب التحفظ والعمل بدل الكلام في النواحي التي قد تعرقل مسار التطور بل بقاء الحلف الأطلسي، يدخل في حزمة من التغيرات التي طالت وتطول النظام العالمي الجديد؛ ولعل أهمها تفكك الوسطية المركزية. فالساكنة التي يسهم الحلف في وضع مظلة وقائية لها يقرب عددها 900 مليون نسمة، أي مجموعة ساكنة دول أعضائه، كما أن عدد التحديات في تطور مستمر: الدفاع عن الحدود، الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، تحدي الهجومات الصاروخية، الإرهاب، القرصنة، إلى غير ذلك. وهذا يعني مما يعنيه كثرة المشكلات الداخلية بين الدول المكونة للحلف وصعوبة إيجاد توافقات بين دول مختلفة اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا وذات تموقع جغرافي مختلف. فأمريكا ليست فرنسا، وفرنسا ليست تركيا أو بولونيا أو أوكرانيا. كما أن الأزمات المتتالية التي عرفتها المنطقة (أزمة أوكرانيا و ضم شبه جزيرة القرم من طرف روسيا، ثم التدخل العسكري المباشر لروسيا في سوريا) عقد السيناريوهات التي تضعها الدول المحورية في الحلف...
إن العديد من علماء سوسيولوجيا العلاقات الدولية يتحدثون في كتاباتهم أن القوة الكامنة في أي شبكة يكون مصدرها الروابط أو لنقل كما يطلق عليه منظرو الشبكات «الوسطية المركزية» بمعنى كما تكتب الزميلة المقتدرة آن ماري سلوتر، أن العضو الأكثر قوة في أي شبكة يشكل العقدة ذات الصلات الأكثر بالعقد الأخرى، وهذا يعني أن أي عقدة قادرة على زيادة قوتها ليس فقط بإضافة وصلات مباشرة، بل أيضاً من خلال زيادة الارتباط بالعقد القريبة، بمعنى كما توحي بذكاء آن ماري سلوتر تستطيع الولايات المتحدة زيادة قوتها سواء بالارتباط بالدول الأعضاء الأخرى في منظمة حلف شمال الأطلسي (ثم ضمان اتصال المنظمة بأكبر عدد ممكن من الدول والمنظمات) أو بزيادة قوة الارتباط بين هذه الدول والمنظمات الأخرى. وإذا ارتبطت منظمة حلف شمال الأطلسي بالاتحاد الإفريقي على سبيل المثال، فإن منظمة حلف شمال الأطلسي والاتحاد الإفريقي يصبحان أكثر مركزية بالنسبة للشبكة وبالتالي أكثر قوة من حيث قدرتهما على فرض النفوذ وحشد الموارد... فمنطق المركزية كمصدر للقوة يعمل على خلق حلقة حميدة، حيث يكتسب أعضاء الشبكة ميزة خاصة من خلال جلب المزيد من الأعضاء إلى الشبكة والارتباط بها بشكل أكثر قوة. وهذا هو على وجه التحديد المنطق الكامن وراء تحول منظمة حلف شمال الأطلسي قبل وصول ترامب. ولكن هذا الأخير لا يؤمن بالوسطية المركزية ولا يريد لقوى أخرى أن تمتطي حصان هاته الوسطية المركزية؛ فهو يؤمن بتفرد أمريكا بالقوة العسكرية والاستراتيجية، ولا يريد الإنفاق المالي على دول ومنظمات عسكرية وهاته هي القناعة التي خرج بها الرئيس الفرنسي وجعلته يتحدث عن الموت السريري للحلف الأطلسي.
فهاته المنظمة التي كانت قد نجحت في خلق توليفة استرتيجية للنظام الدولي والتي جمعت حسابات التقلب والتوجس والتعقيد والغموض، وهي السمات التي تطبع البيئة الاستراتيجية الدولية التي يصعب فيها التنبؤ بما سيحدث لم تعد قائمة كما كانت.