أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أَدخَلَ الإمامُ أبو محمد ابن حزم الظاهريّ - رحمه الله تعالى- مبحث الألوان في كتابه (الفِصَل)؛ و(الفَصْل) غير صحيحة وإن ادّعى ذلك بعض المُتَمَعْلِمِين؛ (الفِصَلَ) بكسر الفاء تعني وريقات متعدِّدة، ولا تعني جملةً من مؤلّفاته، وأفرد للسواد رسالة خاصة؛ لأنَّ بعض مسائل الألوان من مادة الجدل عند المتكلِّمين والفلاسفة وأرباب العلوم، ونجد إشارة إلى بعض هذا الجدل في الرسالة التهكمية التبكيتية التي كتب بها (الجاحظ) إلى أحمد بن عبدالوهاب.. قال فيها: «وخبِّرني عن لون ذنب الطاووس ما هو؟.. أتقول: بأنه لا حقيقة له؛ وإنما يتلوّن بقدر المقابلة.. أم تقول: إن هناك لوناً بعينه والباقي تخيُّل؟.. وما تقول في خضرة السماء: أهي خضرة جلدها كما تقول، أم ذلك لحرِّ الهواء كما يقول خصومنا؟.. وهل تزعم أنّ الأفلاك ذات لون؟ فإن كان لها لون فقد احتملت جميع الأشكال؛ وهذا خلاف ما يقولون، وإن لم تكن ذات لون فالسماء إذن غير الفلك؛ فهذا هذا».. انظر كتاب (رسالة التَّربيع والتَّدوير/ ضمن رسائل الجاحظ الأدبية ص482).. وفصَّل (الجاحظ) بعض مسائل الألوان بقوله: «والنار حر وضياء، ولكلِّ ضياء بياض ونور؛ وليس لكلِّ بياض نور وضياء.. وقد غلط في هذا المقام عالم من المتكلمين.. والضياء ليس بلون؛ لأن الألوان تتفاسد؛ وذلك شائع في كلّها، وعام في جميعها؛ فاللبن والحبر يتفاسدان، ويتمازج التراب اليابس والماء السائل، كما يتمازج الحار والبارد، والحلو والحامض؛ فصنيع البياض في السواد كصنيع السواد في البياض، والتفاسد الذي يقع بين الخضرة والحمرة؛ فبذلك الوزن يقع بين البياض وجميع الألوان.. وقد رأينا أنَّ البياض مياع مفسد لسائر الألوان؛ فأنت قد ترى الضياء على خلاف ذلك؛ لأنه إذا سقط على الألوان المختلفة كان عمله فيها عملاً واحداً؛ وهو التفصيل بين أجناسها، وتمييز بعضها من بعض؛ فيبين عن جميعها إبانة واحدة، ولا تراه يخصُّ البياض إلا بما يخصَّ بمثله السوادَ، ولا يعملُ في الخُضرة إلا مثل عمله في الحمرة؛ فدلّ ذلك على أن جنسه خلاف أجناس الألوان، وجوهره خلاف جواهرها.. وإنما يدل على اختلاف الجواهر اختلاف الأعمال؛ فباختلاف الأعمال واتفاقها تعرف اختلاف الأجسام واتفاقها».. انظر كتاب (الحيوان 5-56).
قال أبوعبدالرحمن: إذا كان لكلِّ ضياء بياض ونور: فكيف يكون الضياء ليس بلون؟!.. والمحقَّق في رؤية البصر: أن له عدداً من الألوان، كما أنّ تفاسد الألوان وامتزاجها لا يعني نفي اللونية عنها؛ فكذلك تمييز الضياء بين الألوان ليس علّة لنفي لونيته؛ غاية ما في الأمر أنّ في الضياء خاصية النور المميّز بين الأشياء مع بقاء ما يتّصف به من ألوان في رؤية البصر.. ولا ريب أنه في كلّ نار حر وضياء إذا اشتعلت وأسفرت، ولكن ليس كل ضياء ونور ملابساً للنار.
قال أبو عبدالرحمن: لقد تجدّد في العلم الحديث مصنوعات تظهر الضياء والنور والكهرباء، وليس كل ذلك ملازم النَّار، وإن كان شيء من النَّار والحرارة مولّد لذلك.. وملازمة النَّار أو عدم ملازمتها: ليس محل نزاع؛ وإنما المحل الذي ينبغي فيه النزاع أن لكل نور وضياء لوناً، وقد يكون المضيء من زجاجة حمراء، أو خضراء، أو صفراء؛ فتكون الإضاءة، ويكون النور ممتزجاً بلون الزجاجة، وتمازج الألوان شيء، وتفرّد كلّ شيء بلونه إذا لم يمازجه ممازج شيء آخر.. ومن المحقّق أن البياض أعمّ من بياض النور والضياء كما نجد في الصبغ الأبيض كالجصّ؛ والضياء هو أثر النور في رؤية الأشياء، وليس هو النور نفسه.. ولم يوفَّق (الجاحظ) في نفي اللون عن الضياء بدعوى التّفاسد؛ فالأصل فيه إضاءة بيضاء من نور أبيض تتميّز به الأشياء؛ وأمّا تلوّن الضياء بلون الزجاجة مثلاً: فذلك تمازج غير منكر؛ ولكنه لا ينفي أن الضياء بياض قبل التمازج، ولا يعني ما أصر عليه (الجاحظ) من كون الضياء في الأصل بياض؛ ووصفه البياض بالميوعة كلام غير محقق، وهكذا وصفه بإفساد سائر الألوان؛ فالأصل في الألوان كلها الثبات، وبالتمازج تحصل ألوان أخر، ويغيب الأصل للون الممتزج سواء أكان أبيض أم أسود أم أخضر أم غير ذلك.. ودعوى (الجاحظ) أنه لا خصوصية للضياء في البياض: دعوى باطلة؛ فالبياض غير الممتزج مرئي في الظلمة بقدر نصوعه وإن لم يكن ثمة ضياء إلا أن يكون الظلام كثيفاً متكوناً من ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، وفعل (كاد) للإيشاك لا للتحقيق؛ فقد يراها إن كانت بيضاء.
قال أبو عبدالرحمن: عن الألوان صدر لي منذ ثلاثين عاماً إن لم تخنِّي الذاكرة كُتيِّب ساهم فيه بعض الأدباء والعلماء، وسأعيد - إن شاء الله تعالى- نشره مُشْنَعاً بما استجد لدي من علم الإمام ابن حزم وعلم غيره؛ وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.