د. خيرية السقاف
للدرعية الاسم وقع خاص في الكمون، ذلك لأنها كانت مرتع طفولتنا، حين كانت الوجهة الخضراء التي نتجه إليها نهاية كل أسبوع، لننعم بظلال نخيلها، وأصوات «مواتير» ضخ مائها، وعصافير تأتيها من كل حدب، وطيور تنزل بقمم نخلاتها من كل صوب، وترابها الذهبي، وبرؤية فلاحيها الكرماء، ورائحة عشبها المفعمة بعبق القهوة، وزخم الحطب، وشذى الهال..
ومشاغبة الشواء فوق الجمر، ورغوة الطبخ داخل الأوعية، ولمَّة العائلة، وشراكة الصحب..
كانت أجمل اللحظات والعربة تنهب الطريق من «الملز» إليها، إلى «الدرعية»، ذات البهجة وهي تنهب الطريق من البيت كل صباح إلى «المربع» حيث مدرستنا التي كانت في عيوننا بسعة الدرعية، وبجمال الإحساس بها، على الرغم من أننا حين أدركنا المسافات، وكبرنا على بتولية المخيلات علمنا بأن «الرياض»، وضواحيها وطن كبير شاسع، بالكاد نقطع مسافة فيه في ساعات قليلة!..
كبرت «الدرعية»، غادرها الكثير، تغيَّرت معالمها حين اختفى الكثير من آثارها، وطينها، وفطرتها بما حلَّ فيها من بيوت الأسمنت، ومصابيح الطرق، ودعس دواليب العربات فوق الزفت الذي ألجم أغبرة ترابها، ومتاجر تضج ليلها، ونهارها فتلجم ذلك السكون المهيب تحت نخلاتها الذي كان!..
ونزلت بها الطموحات لأن تُبعث من جديد، تاريخاً ناطقاً لأول مصدر لهذا الوطن الشاسع العريق..
فهي منطقة تاريخ عظيم، فسيلة نخلة شامخة مثقلة عذوقها بالآمال، والناس، والطموحات، والعمل، هي مصدر وحدة الجهات الأربع وما بينها، ومحضن النشأة، ومبدأ الانطلاق، وبصمة التاريخ..
أمس الأول أذن «سلمان بن عبدالعزيز»، بمبادرات «محمد بن سلمان» بإشراعها، بفتح صفحات سجل تاريخها المادي، إيذاناً لإعادة الدرعية: آثارها، وأعمدتها، وأبجدية نشأتها، بمضمونها الثري، بصوتها الندي، بملامحها الأصيلة، بزخمها المفعم، بهذا التاريخ بين سجف قلبها ...
أذن بأن تُشرع «بوابتها الرئيسة» انطلاقاً لبواباتها السبع؛ «وادي حنيفة، الغبراء، مانع المريدي، الإمام محمد بن سعود، سمحان، سلمان، محمد»، أذن لإقامة المنقض فيها، لتجديد القائم منها، لإضافة الغائب المندثر منها ...
لتكون مرجعاً، ومصدراً، وموئلاً للتاريخ، وصفحاته ملموسة للسائح، وللمواطن، وللنازل، وللمريد ليشهدوا أجمل المنطلقات، وأصدق صوت للوطن..
ويبقى للدرعية في الذاكرة، وفي الذائقة شدو العصافير، ورائحة الهال، وظلال النخيل، ووجوه المزارعين، ورحابة العابرين، وعربة تنهب الطريق إليها وخلف مقودها» إبراهيم»...