حسن اليمني
إذا كان الذي يحدد نوعية حركة أي مجتمع أو شعب أو أمة هو السلوك المترجم لحال الفكر الجمعي أو الثقافة الاجتماعية فمن يبني ويسيّس الفكر والثقافة؟
البيئة بتضاريسها ومناخها والأسطورة بمدلولاتها وعمقها والاتصال بما هو خارج المعتاد ثلاثي أساسي غارس آثاره في الجينات المتعاقبة أجيال بعد أجيال وتتطور وتتقدم وتهذب وتشذب أطرافها وأشكالها بحكم تطور وتقدم العصور وتبقى الجذور راسخة تظهر وتختفي بين فرد وفرد في حال وحال لكنها بكل الأحوال قابعة تنتظر الاستدعاء، ومثال ذلك شخص نال من التعليم والتجربة درجة عالية اكتسحت كل جينات الوراثة وأظهرت وجهًا ربما تقدم على عصره وفي لحظة غضب من فعل تافه تسقط كل هذه الزخرفة والتغليف ليظهر الجين القابع في عمق الوجدان إلى السطح ويتزعم المشهد، هذا يحدث لكل إنسان من أي مجتمع أو شعب أو أمة كان ولا يتفرد به جين متفرع الاختلاف حسب البيئة عن الأصل الأصيل للإنسان بكينونته وفطرته.
وفي يقظة العقل والفكر في أوروبا وظهور الامتداد الفلسفي للتاريخ الثقافي الإغريقي ثم الوصول إلى ما يسمى اليوم العالم الأول والمتحضر تسابق المتأخرون للشرب من ماء الحضارة والفكر الفلسفي المحدّث إلى حد الثمالة وعنون الفعل بمصطلح «الحداثة» وتحدثوا بلسانٍ رطب من نهر الحداثة إلى مجتمعاتهم بغية نقل الوعي الجمعي المخزّن إلى ثقافة اجتماعية تبلور وتشكل السلوك نحو الحركة الإيجابية في البناء والنمو، في الغالب تمت مواجهتهم ومحاربتهم ولكن أيضا زحف حولهم ومعهم من استهوته وأعجبته أو وقعت الصورة المعطاة له بفراغ في فكره ووعيه ليجدها الحلقة الضائعة التي كان يبحث عنها، وفي عصر الدولة والسلطة القوية الحاكمة فإن زمام الأمر في توجيه المسار هو بيدها لاشك من خلال منح فرص الظهور وتشجيعه وحتى مساعدته وإن كان الأمر في غالب الأحيان يعطي مرحلة من الوقت لهذا الاتجاه لعرك القديم وتكسير مجاديفه إيمانا من هذه السلطة بصوابه وصحته وقد تراه فعل إيجابي للنهوض بالمجتمع من تأخر وتخلف إلى تقدم وتطور.
إن ما أريد أن أصل إليه في هذه السطور ليس بدع ولا اختراع وهو ليس هدم ولا بناء وإنما بحث حقيقة نشأة الفكرة نواة الثقافة الاجتماعية وحين أقول إن البيئة والأسطورة والاتصال ثلاثي النشء والبناء فإني أقدم رأي استنتاجي توضح لي بعد قراءة كثير من كتب المفكرين والفلاسفة وهؤلاء هم نواة الحداثة الفكرية الجديدة منذ القرن السادس عشر الميلادي، وليس من العدل ولا الإنصاف ولا حتى المعقول المنطقي التقليل أو التهوين من قوة وعمق وحيوية هذا الفكر وهذه الفلسفة خاصة وأن نتاجها دول متقدمة في كل مجالات الحياة (مادياً) نعيش اليوم برفاهية منتجاتها التي حولت حياتنا إلى ما لم نكن قادرين على تخيله، لكن ما يجب أن نعيه ونلتفت إليه هو أننا لا نقدر أن نغير أثر البيئة والأسطورة والاتصال الخالقة لجين الوعي في ذواتنا لنصبح شكلا مناسبا للزي الحداثي الغربي الذي أبهرنا وأدهشنا بنتاجه ونجاحه حتى صرنا غير قادرين على الاستغناء عنه حتى لو أردنا، كأننا في حال من الازدواجية والانفصام بين الواقع والهوية، ربما شعرنا أننا بين خيارين إما أن نبقى داخل الصندوق لنحمي (نحن) أو أن نتطاير كالفراش حول نار حضارة الواقع ونتلاءم ونتجانس معها لنعيش واقع عصرنا معه وفيه بدلا من التأخر والترقب خاصة وأننا دول متأخرة في كل شيء تقريبا.
أخشى أن أقول إننا تجاوزنا مرحلة التفكير في الاختيار ومضينا بقوة في الاتجاه ولكن يكفي أن نتذكر أن دخول الحداثة الفكرية والفلسفة بدأت في عهد محمد علي باشا في مصر وانتشرت في الشام والعراق ولا يخفى حال مصر وسوريا ولبنان والعراق اليوم ولا أقصد أمنيا أو اقتصاديا وإنما بكافة المجالات وخصوصا الثقافية والفكرية وهي أس الأساس لكينونة الفكر والوعي المنتج للسلوك الفردي والجمعي.
إننا فعلا في حاجة للتوقف والتأمل وإعادة التفكير، وأعتقد أن هذا هو المدخل الصحيح نحو الحداثة والتحديث، وأن الفكر إن لم يكن قادراً على بسط صوابه وصحته على سطح المجتمع والأمة فإنه مهما كان يقين صاحبه يبقى خاطئا وباطلا أو في أقل الأحوال قشّة في الهواء ربما تلتقط ذات يوم ويكتشف صحتها لكن هذا يبقى احتمالا في الغيب.
مثلنا العربي الذي يقول إن كل إناء بما فيه ينضح مثال جيد وصادق فكل فرع يعود لأصله، فكما ذكرت أن البيئة والأسطورة والاتصال ثلاثي الهرم المؤسس للوعي والعقل في صناعة الفكرة فلا ينتظر من مؤمن بالطبيعة الخالقة أن يتحدث أو أن ينعطف عقله للتفكير بخالق من لا شيء، كذلك هو حال المسيحي واليهودي والمسلم أيضا، أي لا شيء يظهر من لا شيء وابن بيئته لا يرى العالم إلا من خلال بيئته أولا، وهذا هو حال فلاسفة ومفكري كل عصر في الغرب والشرق والتلاقح البناء والإيجابي في الأفكار وتطويرها بأرضية خصبة غنية بالتنوع الجيني البدائي الذي يتشكل في فكر إنساني خارج المناخ والتضاريس ليرتقي في السمو والعلا هو الغاية وهو القمّة الفكرية والفلسفية الأقرب لليقين، تلك التي تستطيع إنتاج حضارة حقيقة في الوعي والفهم وتمنح فرص التفكير الأبعد والأعمق.
إن من بين مشاكلنا المزمنة في واقعنا العربي الاستهانة بالعقل العربي والوطني خاصة، فالجين البدوي المتأصل في عقولنا وأعماقنا مهما أخفيناه وتجاهلناه يظهر للسطح حين تستدعى خاصية القوة والضعف، الجين العربي الأصل سلطان على الضعيف ومتسول للقوي، هكذا صنعته البيئة والأسطورة والاتصال ولا سبيل لخلعه من عمق العقل إلا بعملية فكرية تعيد تركيبة العقل العربي من جديد فكيف يمكن ذلك دون أن يكون لنا مصنعنا القومي والوطني لصناعة الفكر ومشتقاته ثم تسويقه وبيعه في السوق المحلي والتصدير فيما بعد تحقيق النجاح بالسلوك المتحضر الراقي القادر على منافسة ومصارعة الآخر، هذا لن يكون أبدا في صندوق مقفل بحكم سلطة تخشى منافسة الآخرين على مكتسباتها.
إذن السلطة الحاكمة على العقل والفكر المتحرر من كآبة وضيق الصندوق هي المعيق الأول والأساس لنقلة حقيقية في الوعي والفكر الخالق لسلوك إيجابي منتج، هذه السلطة الحاكمة ليس المقصود بها السلطة السياسية أو بمعنى آخر الحكومة نعم هي حاكمة ويصل سلطانها العقل والفكر ولكن ما أقصده السلطة الذاتية أي الذات التملكية في الإنسان الراغبة في الاستحواذ على كل شيء، تريد الشهرة والمال والمنصب والأضواء والتميّز وصفات أخرى كثيرة، يعززها ويقويها ويدعمها العصر الاستهلاكي «السيبرناطيقي» الذي حول الإنسان إلى سلعة تعرض نفسها بمطهرها ومكانتها قبل قيمها وفكرها.
المعيق الثاني رهبة التقدم فكثير ما نرى أو نقرأ أو حتى نسمع عن إبداع أو غير مألوف نقدم له الإعجاب باستحياء ونحتفظ بالنقد أو المناقشة لحماية الذات التملكية ورهبة في كشف باطنها الذي ربما نقر في داخلنا بتواضعه وتجانسه الطبيعي الذي لا يتماهى مع المظهر المكتسب والمعد للعرض والتسويق، ومعيق ثالث يظهر من عجز بعض العقول عن استيعاب سعة العقل الذي أغلقه بقوة إلاهية مقدسة حتى صار كل محاولة للخروج إلى السطح أو سفح الجبل لرؤية الوادي والسهل بشكل أوضح وأوسع عدّه تمرد وتطاول على اليقين والمسلم به استسلام وخضوع.
إن عجز من صعد للسطح ورأى وفهم ثم تحول إلى أداة فهمه دون أن يجعل ما استزاد به ذخر لبناء فكري طبيعي متجانس مع البيئة والأسطورة والاتصال الخالقة لجين الوعي والفكر في العقل يعد مع تلك المعيقات المذكورة آنفاً هي لب التخلف والتأخر الذي نعيشه في راهن الحاضر، بقي أن أقول إن التخلف والتأخر الذي أقصده هو التبعية والإمعية المساقة لغايات لا تعنيها وربما تدفنها وتمحيها وإن التقدم والتحضر الذي أعنيه هو في أنسنة السلوك والفكر الإيجابي المنتج الذي يتلاقح مع الأمثل ويصعد به.
ذكرت الجين البدوي المتلبس في العربي ولم أكن أول من ذكره فقد ذكره المفكر والأستاذ الاجتماعي العراقي علي الوردي وفصّله بشكل مقنع، ولا يعني ذلك اختلاف الجنس العربي عن غيره من الأجناس البشرية الأخرى ولكن عامل البيئة والأسطورة والاتصال يختلف من جغرافيا لأخرى.
على سبيل المثال فإن الفرد الياباني الذي نشأ في جزر محاطة بالبحار وتقبع فيها الجبال والسهول والذي نراه اليوم مثالا للتقدم والانضباط في الفكر والسلوك والإنتاج كان قبل سبعة عقود تقريبا يعيش في دولة ضعيفة اقتصاديا وخدماتيا بل وتعرض لهزيمة ساحقة تفجرت خلالها القنابل النووية على رؤوس أهلها والحال كذلك في كوريا الجنوبية التي باتت اليوم نمر صناعي ناهيك عن الصين ذات الكثافة السكانية الأولى في العالم التي صارت الملك غير المتوج اقتصاديا على العالم كله، ماكان لهذا التقدم الهائل ليظهر لولا تقدم وتطور الفكر وتحديث بياناته إن جاز التعبير ليصنع السلوك الإيجابي المنتج، القصد أن دولا تقدمت دون أن تستهين بلغاتها أو تدفن جينات أفكارها في سطوع ولمعان الفكر الآخر وفلسفته.
إن تقديس النسب والسلالة بالفخر والاعتزاز نطفة جينية متقوقعة في العقل العربي ومتأصلة، كما أن إغاثة الملهوف وهو عمل إنساني نبيل والكرم الأخلاقي في المواجهة المباشرة هي أيضا نطاف جين عربي متأصل، لكن كل هذا برغم نبله وسموه يتلاشى في الخفاء كنطفة جينية أيضا مهما حاولنا إنكارها أو التغافل عنها وهي بلا أدنى شك تناقضات عجيبة تعجز عن فهمها وكيف يحتويها العقل العربي دون أن تفقد إحداهما وجود الأخرى وكأنهما تجانسا وأصبحا وجهين أو سطحين لنطفة واحدة هي الجين البدوي الانتهازي، ليس هذا نقدا للذات بقدر ما هو إقرار واعتراف بالحقيقة وفي كل جماعة بشرية تناقضاتها والأمر ليس حصرا على العربي وحده في هذه البشرية، فهناك في أمم أخرى من يمتلك أرق الأخلاق والتهذيب مثل العرب، لكن الفرق أن هناك من هذه الأمم من يتصرف بعض أفرادها في عوزه للعمل بأسلوب لا أخلاقي دون الإحساس بالعار وهو يتحدث عن القيم والأخلاق وربما يحاضر بذلك في جامعة مرموقة.
إن غاية القراءة والاطلاع وتتبع الأفكار وتأمل الحكم وفلسفة الفكر وتفكيك السلوكيات وفهم علاقة الإنسان بالوجود وغاياته ومصادر رفاهيته وبحث دوافع تفاعلاته فضاء رحب من النور والضياء لكنه لا يكفي ولا يمثل قيمة إن لم يؤثر ويرمم التشوهات التي انحبست في الذهن دون تجديد أو تحديث، كما أن غاية الفهم ليست في الاستيعاب الصحيح وإنما في إعادة صياغتها وبنائها لتأخذ حيزها ومكانها الصحيح في العقل حتى يتمكن من إطلاق الفكر بالاتجاه الذي ينقل الوعي من خلال السلوك إلى خطوة متقدمة في مسار العيش والحياة على الأرض، وهو لا يصل إلى النجاح حتى بهذا ما لم يتمدد أفقيا في المحيط الاجتماعي لينقل الوعي الفردي إلى جمعي، والواقع أن هذه من أكبر الإشكاليات التي توجهنا نحن العرب وتؤخر التقدم بخطوات واضحة برغم استهلاكنا المنتجات الحديثة وإجادتنا في التعامل معها وعلة العلل في ذلك أن الدهشة تسحبنا إلى بريقها ثم ننتقد ذواتنا وتاريخنا وحضارتنا وكأنما خلق الكون للتو.