د.سالم الكتبي
قد لا يكون هناك توقيت أسوأ من التوقيت الراهن كي يتخذ ملالي إيران قراراً برفع أسعار البنزين بنسب تبلغ نحو 300 %، بموافقة المجلس الأعلى للتنسيق الاقتصادي، المكون من رؤساء السلطات الثلاث: التنفيذية حسن روحاني، والتشريعية علي لاريجاني، والقضائية إبراهيم رئيسي، ولم يقتصر القرار على المستويات السعرية، بل لجأ إلى آلية جديدة للتحكم بكميات الاستهلاك وتحديد حصة معينة لكل مواطن.
والواضح أن النظام الإيراني قد اتخذ هذا القرار على مضض بسبب ضعف الموارد اللازمة لمعالجة التدهور المتسارع في مستويات معيشة الفقراء، لذا فقد اتجهت المبررات الحكومية المصاحبة لصدور القرار للتركيز على إقناع الإيرانيين الفقراء على وجه التحديد بأن هدف القرار «إيجاد العدالة الاجتماعية لستين مليون إيراني من محدودي الدخل، ومحاربة تهريب الوقود، وتقليص الفساد، وإدارة استهلاك الوقود، على أن يتم دفع العائدات المالية الناجمة عن القرار إلى الشرائح الضعيفة منذ الأسبوع المقبل، إضافة إلى عدم رفع سعر الغازوئيل» (الذي يستخدم وقوداً للشاحنات التي تنقل البضائع والمواد الغذائية)، في محاولة للحيلولة دون انضمامهم للتظاهرات كونهم الشريحة الأكبر من الشعب الإيراني.
ورغم أن النظام الإيراني يحاول ممارسة الخداع بأن العائدات المتوقعة من رفع أسعار البنزين لن تدخل ميزانية البلاد، بل ستستخدم في دعم الفقراء، فإن الواقع يشير إلى أن تراجع قدرة الخزانة العامة على دعم هؤلاء الفقراء جراء العقوبات وتلاشي عائدات الصادرات النفطية بسبب سياسات النظام، هو السبب الحقيقي في الاتجاه نحو إيجاد مورد بديل يحل محل الخزانة العامة في دعم الفقراء!.
الواضح أن الملالي يدركون خطورة التوقيت السيئ لقرار، الذي يتزامن مع احتجاجات غاضبة ضد إيران في العراق ولبنان، ولكن المؤكد أن انعدام البدائل قد عجّل باتخاذ هذا القرار الذي يعد مغامرة سياسية بكل المقاييس، لذا يلاحظ أن ردة فعل السلطات الأمنية على غضب المتظاهرين وإن كانت دموية فقد أعلنت قوى الأمن الداخلي في ادعاء غير صحيح أنها «تمارس ضبط النفس حتى الآن»، رغم أن التقارير الأولية تشير إلى مقتل عشرات المتظاهرين وإصابة المئات الآخر في مدن إيرانية عدة.
ورغم أن الاحتجاجات الشعبية تنتهي في كثير من الحالات التي شهدها العالم بالمطالبة بإسقاط الأنظمة السياسية الحاكمة، فإن الوضع بالنسبة لنظام الملالي ربما يبدو مختلفاً بعض الشيء، بحكم اختلاف تركيبة النظام السياسي واعتماده بشكل كبير على هرمية ثيوقراطية تمنح ولي الفقيه السلطة الأعلى في النظام، وبالتالي يبقى لدى هذا النظام هامش مناورة أخير يتمثل في إمكانية التضحية برأس السلطة السياسية، أيّ الرئيس روحاني وحكومته وإعادة هندسة المشهد السياسي بإجراء انتخابات جديدة، ويبقى المرشد الأعلى علي خامنئي في مكانه من دون الكثير من الخسائر للنظام ككل.
وبالتالي فإن الملاحظ أن هناك توجهاً لدى النظام الإيراني للسماح -وفق حدود معينة- للمحتجين بالتعبير عن رفضهم لسياسات الرئيس روحاني، ومنها قرار رفع أسعار البنزين، على أن يكون قرار إقالته جاهز في مكتب المرشد الأعلى في حال تفاقم الغضب الشعبي، وهذا الأمر لا يزال غير واضح وغير مؤكد حتى الآن.
ربما يفكر خامنئي أيضاً في أن تكون التضحية بروحاني وحكومته فرصة ثمينة له، بالنظر لاعتبارات عدة منها أن الدعم الأمريكي المباشر والسريع للتظاهرات في إيران يعني تلاشي أيّ فرص لإجراء حوار وشيك بين حكومة روحاني وإدارة الرئيس ترامب، وبالتالي يصبح وجود روحاني واستمراره بمنزلة عبء على سياسات وتوجهات المرشد الأعلى، الذي يمكن أن يصيب «عصفورين» بحجر واحد في حال تصاعدت حدة الاحتجاجات والدعوات الغاضبة ضد قرار رفع أسعار البنزين، بإقالة روحاني وحكومته من ناحية وامتصاص جزء من غضب الشعب الإيراني من ناحية ثانية.
يقول حسام الدين آشنا، مستشار الرئيس الإيراني: «إن إيران ليست العراق أو لبنان».. وكتب آشنا في تغريدة نشرها على حسابه في «تويتر»، «السفارة الأمريكية في طهران أيضاً مُغلقة منذ سنين طويلة.. لن نسمح لوسائل الإعلام العميلة بتحديد مصيرنا».. هذه الثقة المفتعلة التي يحاول مستشار الرئيس الإيراني إظهارها في مواجهة المحتجين، ليست حقيقة، بل الأرجح أن اللغة لا تعكس ثقة حقيقية بقدر ما تعبر عن أن النظام قد اتخذ قراراً إستراتيجياً بالتصدي للشعب الإيراني مهما كانت كلفة ذلك، ظناً منه أنه سينجو في ظل عدم وجود سفارة أمريكية لدى إيران، والتغييب التام لوسائل الإعلام الأجنبية.
والواضح أيضاً أن الملالي يريدون صرف الأنظار عن أسباب الغضب كالعادة، ويحيلون الأمر إلى التدخل الأمريكي، لاسيما أن وزير الخارجية مايك بومبيو قد أعاد في أعقاب اندلاع التظاهرات بساعات نشر «تغريدة» مؤرخة بيوم 22 يوليو 2018، تحدث فيها عن الاضطرابات التي شهدتها إيران في ذلك الحين، وقال في تعليقه الجديد الذي أرفق به بيانه: «كما أكدت للشعب الإيراني منذ نحو عام ونصف، الولايات المتحدة معك».
وفي ضوء ما سبق، فإن قرار رفع أسعار البنزين ربما يمثل مغامرة للرئيس روحاني، ولكنه ربما ليس كذلك بالمرة بالنسبة للمرشد الأعلى علي خامنئي، خصوصاً أنه ليس هناك بديل عن تبني هذه الخطوة لتوفير موارد مالية تسهم في الحد من الغضب ضد سياسات النظام.