د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** كان إيحاءً خفيًّا من والده 1352- 1441هـ -رحمه الله- حين زوده، وهو في الصف السادس الابتدائي- بمقرر اللغة الإنجليزية للمرحلة المتوسطة، وكأنه توجيهٌ غيرُ مباشر كي يسجلَ في مدارس وزارة المعارف -كما كانت تسمى- وليس في المعاهد العلمية التابعة لرئاسة الكليات والمعاهد (جامعة الإمام لاحقًا)، غير أن تأثير أصدقائه بشعارهم الطريف: «المعهد دين ودنيا» فاق الرغبة المستترة دون أن يجهل إيماءة والده؛ فالتحق ليلًا بالمتوسطة ودرس مواد اللغة الإنجليزية والعلوم والرياضيات مستمعًا، وغرضُه الاستفادة لا أكثر، وفي وقتٍ تلاه تعاقد له أبوه مع معلم خاصٍ درَّسه مقرر اللغة الإنجليزية للمرحلة الثانوية، واقتنع أنه جمع الحسنيين كما أرضى أباه.
** وحين تعين معيدًا في معهد الإدارة وصدر قرارُ ابتعاثه إلى الولايات المتحدة أُلحق -ككل مبتعثي المعهد- ببرنامجٍ مكثفٍ في مركز اللغة الإنجليزية التابع للمعهد، وجميعُ أساتذته -عدا مديره حينها الأستاذ إسحق الدقس- أصليُّو اللغة استُقدموا من أميركا وبريطانيا، ولا مجال داخل قاعاته لحديثٍ بغير الإنجليزية؛ فيسَّر ما تلاه من دراسات وحقق درجاتٍ عاليةً في الاختبارات الدولية، ولم يحتجْ صاحبكم لكامل سنة اللغة فجمع معها ستَّ ساعات في الجامعة، وظل مدينًا لدراسته المبكرة وقت المعهدين الأثيرين في سيرته المؤثرين في مسيرته.
** يذكر أن أستاذنا الدقس صاحب كتاب: (عهد الصبا في البادية الذي ترجمه الأستاذ عزيز ضياء، وصدر عن تهامة عام 1980م) كان يتحدث معنا في فترات الراحة باللغة الإنجليزية، وواجهه صاحبُكم آنذاك باستفهام الهُوية؛ فلماذا نتكلم الإنجليزية وكلنا عرب ولسنا داخل فصول الدرس؟ ولم يكن استفهامه ذا معنى؛ فإنما شاء «المدير» تقويمَ مستوى الدارسين، وليس للشعار العروبي موقعٌ مكانًا ولا زمانًا، لكنها حماسة شابٍ ظنَّ فضلّ.
** ربما تُغني هذه التوطئةُ عن تبرير الهدف منها؛ فقد استعجمت الألسنة والوسائط اليوم ممن يجيدون الإنجليزية كأهلها، وممن يتعثرون بأبجدياتها، ومن بينهما؛ يجمعُهم الافتتان بالغريب، والافتئاتُ على القريب، وافتراضُ أن الرطانة فطانة، والوهمُ أنها أعلى مكانة، ولا يعني أكثرَهم أن يلحنوا في لغتهم ويملؤوها بلغوهم، والمفارقة أن متقدمينا -كما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية 661- 728هـ في كتابه» (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم- ج1- ص526)- حين سكنوا أرضَ الشام ومصر ولغة أهلها روميَّة، وأرضَ العراق ولغةُ أهلها فارسية، وأهلَ المغرب ولغةُ أهلها بربرية عوَّدوا أهلها العربية.
** الحديثُ في شأن الرطانة يطول، وفي الآثار المنقولة ما يجعلها مكروهةً شرعًا، ومنكرةٌ هويةً وانتماءً وعرفًا، وكم سخرنا ممن يُدخلونها في أحاديثهم وكتاباتهم فلا يجيدون النطق ولا يُحسنون الاستشهاد حتى بدَوا أقربَ إلى تعريةِ جهلهم كما تكثيف استلابهم، وكانت لأحد أصدقائنا في «سان دييغو» طفلةٌ نابهة تجيد الإنجليزية كما الأميركيين فتواجه من يتحدثُ بها دون إتقانها بقولها: «أنت تتكلم بشكل مضحك».
** الاعتزازُ تميزٌ أو تحيز.