د. عيد بن مسعود الجهني
التاريخ النفطي في جزيرة العرب يسجل أنه بعد أن انتهى الامتياز الذي كان قد منحه الملك عبدالعزيز -رحمه الله- للشركة الشرقية (Eastern and General Syndicater)، بإنهاء عقد الامتياز الممنوح لها عام 1928، وبعد أن أخفقت الشركة بالوفاء بالتزاماتها العقدية فتح الباب أمام المستثمرين الآخرين في ميدان التنقيب لاستكشاف البترول في المنطقة الشرقية.
ويذكر الجيولوجي الأمريكي توتشل أنه بعد أن تأكد وجود البترول بالبحرين كلفه الملك عبدالعزيز بالاتصال بالشركات الأمريكية عام 1932، ومنها شركة ستاندرد أويل أف كاليفورنيا (Standard OIL OF California)، حيث اختار الملك عبدالعزيز تلك الشركة الأمريكية.
وتم توقيع اتفاقية الامتياز في جدة في 4 صفر 1352 الموافق 29 مايو 1933 بين المملكة وتلك الشركة للتنقيب عن البترول واستغلاله في المنطقة الشرقية لمدة ستين عاماً، وأصبحت سارية المفعول اعتباراً من 20 ربيع الأول 1352هـ الموافق 14 يوليو 1933م.
وبعد فترة من غيوم اليأس وخيبات الأمل لإنتاج البترول بكميات تجارية بدأ إنتاج الزيت في الآبار التي حفرت يتناقص بئرًا تلو الأخرى، ثم جاء الخبر السعيد ففي 4 مارس 1938م أعلن أن البئر رقم 7 بدأت إنتاج النفط فيها بكميات تجارية فعمت الفرحة الجميع، وعلى الفور أعلنت (سوكال) أن بئر الدمام رقم 7 ينتج 1585 برميلاً في اليوم على عمق 1.5 كيلومتر تقريباً، وقد استمرت عمليات الاختبار إلى أن أصبحت البئر تنتج ما يزيد على 100.000 برميل في اليوم وخلال مدة قصير تم تعميق البئر 2 و4 إلى المستوى نفسه، واكتشف الزيت فيهما أيضاً.
هنا تأكد وجود البترول بكميات تجارية في البلاد، وفي 16 أكتوبر 1938م أعلنت (كاسوك) للحكومة السعودية رسمياً أنها بدأت الإنتاج التجاري من النفط السعودي الذي طال انتظاره بكميات كبيرة فانتعشت الآمال، وفي عام 1938 أدار الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الصمام إيذاناً ببدء تصدير الزيت السعودي الخام وتحميل أول شحنة منه إلى العالم.
ويعد اكتشاف النفط بالمملكة من أضخم الأحداث التي شهدها القرن المنصرم في جزيرة العرب وبالنسبة للمملكة، حدثاً سياسياً واقتصادياً مهماً طال انتظاره، ورغم أن معدل الإنتاج كان متواضعاً في بداية الأمر إلا أنه كان يمثل الدخل الرئيسي للدولة، وقوى مركز البلاد الاقتصادي على المستوى الوطني والدولي، وهذا ما دعا وزير الداخلية الأمريكي (هارولد اكس) خلال الحرب الكونية الثانية إلى القول إن الملك عبدالعزيز يملك بيده مفاتيح امتياز البترول الضخم.
وأقدم ميزانية للمملكة قبل اكتشاف النفط كانت عام 1350- 1351هـ، قدرت بمبلغ (10.6) مليون ريال، وكان مجمل دخل المملكة حتى عام 1364هـ أقل من 4 ملايين دولار سنوياً، وزادت الميزانية عام 1367هـ الموافق 1947م زيادة كبيرة بالمقارنة بسابقتها، حيث ظهر في تلك الميزانية إيرادات النفط وقدرت الإيرادات بمبلغ (214.5) مليون ريال، مثلت إيرادات البترول وحدها 140 مليون ريال، ومع ارتفاع إنتاج النفط وزيادة عائداته تم إعداد أول ميزانية رسمية للمملكة في عام 1367/ 1368هـ 1948م.
وقد برزت المملكة كقوة نفطية مهمة ومؤثرة باعتبارها أكبر مصدر للبترول وأكبر دولة منتجة حتى عام 2017 وتمتلك احتياطياً نفطياً كبيراً، لتبرز كقوة نفطية على المستوى الدولي (266.26) مليار، حوالي (21.9) في المائة من مجموع الاحتياطي النفطي العالمي، ناهيك عن الاحتياطيات الكبيرة المحتمل اكتشافها.
أرامكو السعودية تعتبر أكبر شركة نفطية في عالم اليوم، تاريخ نفطي يندر أن تجد له شبيهاً، تاريخ مليء بالتحديات الجسام، فالتاريخ النفطي يسجل أن شركة البترول العربية الأمريكية (أرامكو) استمرت تحمل هذا الاسم حتى أوائل الثمانينيات حيث أصبح الاسم (أرامكو السعودية).
ولم يأتِ تملك أرامكو السعودية في لمح البصر، إنما جاء خطوة خطوة مدروسة بحصافة علمية ومهنية غاية في الدقة عن طريق التملك التدريجي، ففي عام 1973 وقعت المملكة مع أرامكو اتفاقية حصلت بموجبها على 25 في المائة من حقوق امتيازها وكذلك ملكيتها، وفي العام التالي 1974 زادت حصة المملكة لتصبح 60 في المائة.
وبعد مفاوضات ماراثونية بين الطرفين تحت مظلة غاية في السرية، ومع بزوغ شمس الثمانينيات وتحديداً 1980 أصبحت المملكة المالكة لشركة أرامكو بالكامل لتفاجأ مكينة الإعلام العربي والأجنبي بنقل ملكية أكبر شركة نفط على المستوى الدولي كاملة بهدوء تام من الإدارة الأمريكية إلى إدارة وطنية كفاءة ليصبح اسمها شركة الزيت العربية السعودية (أرامكو السعودية) ليتحقق الهدف الوطني الكبير الذي سعت إليه الدولة، ضمن اتفاق شهير ضمن للطرفين حقوقه العادلة.
بعد هذا التاريخ الحافل في صناعة النفط الدولية الذي حققته أرامكو السعودية لتصبح الشركة النفطية الأولى على المستوى الدولي، ولأن الحكومة السعودية تبنت رؤية 2020- 2030 وفي مقدمة أهدافها تنويع مصادر دخل الدولة خارج عباءة النفط إلى حد كبير فقد جاء طرح أرامكو الأولي في سوق الأسهم السعودي يتلوه طرح آخر.
هذا جاء بعد دراسات متعمقة لسنوات عدة من جميع النواحي النفطية والاقتصادية والاستثمارية والإدارية والقانونية وقواعد الخصخصة.. الخ على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، هذا لأن ذلك يعد الأهم في التاريخ الحديث على المستوى المالي، فأرامكو قدرت ما بين (1.6- 2.2) تريليون دولار تقريباً، وهذا رقم فلكي لم تتعود عليه سوق المال العالمية ممثلة في البورصات الدولية ومنها طوكيو ولندن ونيويورك.
ويمكنني القول في هذه العجالة إن العالم عندما تملكت المملكة أرامكو لتصبح (أرامكو السعودية) في أوائل ثمانينيات القرن المنصرم قد تفاجأ عالم المال والأعمال في تلك الفترة من التاريخ بذلك الخبر المهم في عالم صناعة النفط.
واليوم يستقبل العالم المالي مشهداً تاريخياً مهماً أرامكو السعودية- عملاق صناعة النفط العالمي ستدخل السوق المالية السعودية، وستغزو أسواق المال الدولية خطوة خطوة ضمن خطط صممت بحرفية متناهية، جاءت ضمن دراسات عدة، تبنتها الحكومة السعودية الطامحة إلى ضخ الأموال في عروق اقتصادها من مصادر عدة منها طرح أسهم أرامكو للمساهمين المحليين والدوليين، لكن تصبح الدولة المالك الكبير.
ولا شك أن الإعفاءات التي حصلت عليها أرامكو من هيئة السوق المالية تبرز أهمية طرح أسهم شركة نفطية في حجم أرامكو ومن تلك الإعفاءات ما يتعلق بالإفصاح عن نوع وإجمالي قيمة الطرح وعدد الأسهم المطروحة للاكتتاب ونسبة الأسهم المطروحة من رأسمال الشركة في نشرة الإصدار، كذلك الإعفاء من بناء سجل الأوامر وتخصيص الأسهم في الاكتتابات الأولية، ذلك بالسماح بطرح متزامن للمؤسسات والأفراد، إضافة إلى الإعفاء من مدة نشر (نشرة الإصدار) من 14 يوماً إلى نحو ثمانية أيام تقويمية.
أرامكو التي (حسب إعلانها) يبلغ عدد أسهمها (200) مليار سهم تخصص نسبة (0.5) في المائة (مليار سهم) كحد أعلى من إجمالي أسهم الشركة للمكتتبين الأفراد، وهذه نسبة كبيرة سواء تلك المخصصة للأفراد، أو أسهم الشركة التي تبلغ (200) مليار سهم، فسوق الأوراق المالية الدولية لم تشهد طرحاً في هذا الحجم طوال تاريخها، وجاء اليوم الذي تستعد جميع الأسواق المالية لاستقبال هذا الحدث الكبير الذي يعد أحد أهم أحداث القرن الواحد والعشرين المالية.
وقد أبانت قواعد طرح الأوراق والالتزامات البائع (الحكومة السعودية) لفترة حظر حددت مدتها بستة أشهر تبدأ اعتباراً من تاريخ بدء تداول أسهم الطرح في السوق المالية وبذا لا يحق له التصرف في أسهمه خلال هذه الفترة، يستثنى من ذلك تصرف المساهم الكبير في حال تصرفه في أسهمه على أي من الآتي: حكومة أجنبية أو المؤسسات التابعة لها وفقاً للتعريف الوارد في القواعد المنظمة لاستثمار المؤسسات المالية الأجنبية المؤهلة في الأوراق المالية المدرجة، أو مستثمر استراتيجي أجنبي مرتبط بحكومة أجنبية، على أن يقوم المساهم البائع بالإفصاح للجمهور عن أي تصرف في أسهمه لأي من الجهات المختصة في إتمام عملية التصرف أثناء فترة الحظر النظامية.
وأي متتبع لمسيرة صناعة النفط على المستويات كلها يدرك أن طرح أسهم أرامكو كلها أو بعض منها يعد بلا جدال بالمفهوم المالي والاستثماري (صفقة القرن المالية) التي يجتمع الكل حولها للفوز بسهمها الذي يعد أغلى من الذهب والألماس.
وللحديث بقية
والله ولي التوفيق،،،