د.سهام صالح العبودي
«السياسة هي فنُّ الإبقاء على الدول» *موراس
مرَّت قبل أسابيع الذكرى الثلاثون لاتفاق الطائف التاريخي الذي وُقِّع في يوم الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1989م، وهو الاتفاق الذي أنهى حربًا استهلكت خمسة عشر عامًا من تاريخ لبنان، وربما هي مصادفة أن توافق هذه الذكرى ثورة شعبيَّة لبنانيَّة تطالب بالتغيير، كما توافق - في الوقت عينه - لحظة تاريخيَّة لمصالحة وطنيَّة كبرى هي (اتفاق الرياض) الذي جمع الأطراف اليمنيَّة: الحكومة الشرعيَّة، والمجلس الانتقالي الجنوبي لتوقيع عهد مصالحة، وخطة عمل من أجل اليمن يوم الثلاثاء الخامس من نوفمبر الجاري.
في لبنان خرجت جموع لبنانيَّة من كلِّ الطوائف تفرج عن سخطٍ قديم، ومتجدِّد من الأوضاع المتدهورة - على جميع المستويات - في البلد العربي المنهك، وتعلن عن غضبها من النظام السياسي، والفساد المستشري، والتدخُّلات التي تأخذ لبنان إلى مسارات التفكُّك. ينظر العالم إلى هذه الثورة نظرة أمل في أن تكون خلاصًا لبنانيًّا يضمن استعادة لبنان لاستقراره، وأن تفتح الطريق أمام خطوة تأخرت كثيرًا في سبيل القضاء على الصراعات المذهبيَّة، والمصالح النفعيَّة التي فاقمت مشكلاته الاقتصاديَّة، كلُّ ما تراكم من مشكلات في هذا البلد انفجر في الشارع صوتًا حرًا لمواطن لبناني الهوى والهويَّة.
وضعت (وثيقة الوفاق الوطني اللبناني) بين يدي أطراف الحرب اللبنانيَّة - آنذاك - إطارًا عامًا لإيقاف الحرب أولاً، ثم العمل على أن تُجتثَّ جذورها كي لا يذوق اللبنانيون ويلات الحرب من جديد، كان على اللبنانيين أن يعبِّئوا هذا الإطار بلوحة تآلفهم من خلال العمل على التخلُّص التدريجي من الطائفيَّة السياسيَّة، وحلِّ جميع الميليشِيَات، وتسليم أسلحتها. واليوم يستذكر اللبنانيُّون - في خضم الثورة الجديدة - (اتفاق الطائف)، الاتفاق الذي بدأ سلامًا يحتاج - من أجل استمراره - إلى طريق معبَّدة بالنيَّات النقيَّة؛ كان أهم بنود هذا الاتفاق أن تحافظ القوى السياسيَّة في لبنان على سيادة لبنان واستقلاله، وأن تضمن لهذا البلد ألا يقع رهينة تدخُّلات تجعله ممرًا لأهداف غير وطنيَّة، أو أرضًا تصفِّي فوقها دول أخرى حساباتها، وتدير فيه مصالحها على حساب المواطن اللبناني ومقدَّراته الوطنيَّة.
لكن لبنان قد غدا ساحة للسلاح غير الشرعي، وللأموال المشبوهة، يمكن مثلاً النظر في قرارات أمريكية بفرض عقوبات على عدة بنوك لبنانيَّة بتهمة تبييض الأموال، وتيسير وصول الدعم إلى الشبكات الإرهابيَّة: أموال سوريَّة وإيرانية كانت تجد مستقرًا أمنًا في بلدٍ تغوَّل فيه الفساد، وتمدَّدت فيه المنظمات الإرهابيَّة، وهكذا غدا لبنان غارقًا في نُفايات نفسه، وفي نُفايات الآخرين، صوت الثورة الأخير يقول: إن الوضع في لبنان قد بلغ من السوء مدًى لا يمكن قبوله، وقبل هذه الثورة الأخيرة عصفت بالبلد أحوال صعبة: ثورات متتالية، وأزمة الفراغ الرئاسي، والدولة المتورِّمة داخل الدولة، أجراس إنذار كثيرة كانت تقول: إن لبنان يحتاج إلى خلاص سريع وحقيقي.
في يوم توقيع (اتفاق الرياض) التاريخي بين الأطراف اليمنيَّة قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في كلمته: «كلُّ يوم يجتمع فيه اليمنيُّون هو يوم فرح للمملكة»، وحين تقدَّمت السعوديَّة إلى اليمن لم يدفعها شيء إلا الرغبة في إصلاح البيت اليمني، والقلق على مصير هذا البلد العزيز وشعبه، ولم تندفع تحقيقًا لمصلحة خاصَّة، على عكس الذين كانوا ينتفعون من آلام اليمن وفرقته، ويقتنصون المصالح من شتات رأيه، ويصدِّرون أطماعهم في شكل شراء الولاءات، وزراعة التشرذم وتجذير الخلاف ليكون موطئ التدخل السهل، لكنَّ تاريخ المملكة في مسار الإصلاح لم ينمَّ في أي جزء منه إلا عن رغبة في أن يرتفع الأفراد عن مصالحهم لصالح الجمع، وأن يبقى اليمن جارًا قويًا موحدًا ومستقلاً وعزيزًا.
تلك الأطماع الخالصة عرفت طريقها إلى اليمن عندما بدأ التغلغل الحوثيُّ في البلاد مدعومًا من إيران؛ لتصنع إيران لنفسها - كما هي دومًا - بؤرة فاسدة تسمح لها بالتخريب والانتفاع، ولتضمن لنفسها مدخلاً ينفذ بها إلى جنوب العالم العربي، وهي التي بدأت وما زالت تمارس توغُّلها في عواصم الشمال العربي، وتخلِّف آثار تدخُّلها تقطيعًا لأوصال تلك العواصم، وهدمًا لكياناتها السياسيَّة، وإلا ما الذي يؤول بدولة كالعراق تملك كلَّ مقوِّمات الوجود القوي المستقلِّ إلى أن تقع تحت رحمة الحرس الثوري الإيراني يُسكت الأفواه المطالبة بالحريَّة فيها بالرصاص العجمي!
آخر تقارير ميزان التبادل التجاري بين العراق وإيران تثبت أن العراق العريقة أصبحت مجرَّد سوق لتصريف منتجات إيران تملُّصًا من العقوبات، ميزان غير عادل يصبُّ في مصلحة إيران التي باتت تسيطر سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا على العراق، لقد آن الوقت كي يسأل العراقيون أنفسهم: كيف انتهى الأمر بوطنهم بلدًا تابعًا مكمَّم السيادة والصوت!
بلغت الاعتداءات الحوثيَّة - الإيرانية ذروتها حين سعت إلى إسقاط الشرعيَّة، والانقلاب على الرئيس اليمني، واحتلال صنعاء عام 2014م في شكل تسليم مهذَّب لعاصمة عربيَّة أخرى لإيران، ولم يخفَ على أحد - آنذاك - أن ما بدا انقلابًا داخليًا لم يكن إلا بوابة تفتح أمام إيران التهام مدن اليمن، ليتحقَّق لطهران الامتداد المأمول نحو مضيق باب المندب، ليلحق بمضيق هرمز؛ لتجعله خِناقًا جغرافيًّا تمارس من خلاله إيران إرهابها العالمي، ونتذكَّر - في أوقات ماضية - إن نائب الرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي قد صرَّح دون مواربة معلنًا موقف إيران من العقوبات التي باتت تهدد نفطه، وهو موقف لم يفصح عن شيء أكثر من وجه الدولة الإرهابيَّة حين قال: «إن فُرضت عقوبات على صادرات النفط الإيرانية فلن تمرَّ نقطة نفط واحدة عبر مضيق هرمز»! إن الشكل الذي تبدو عليه أحوال الدول العربيَّة التي توغَّلت فيها إيران ليس إلا الشكل الذي سيبدو عليه العالم حين يملك الغباء سلطة نافذة وسارحة دون قيد، وجريمة السياسة التي لا تُغتفر هي أنَّها تجعلنا جزءًا من هذا التاريخ الذي يصنعه الأغبياء!
ولم تكن (عاصفة الحزم) حين بدأت في شهر مارس من عام 2015م إلا إنقاذًا لليمن من السقوط في وحل الهيمنة الإيرانية التي حوَّلت مدائن الشمال العربي إلى خرائب تدين بولاء مطلق لعمائم فارس، أدركت السعوديَّة ودول الخليج وكلُّ قوى التحالف أن بقاء اليمن حرًا معافى هو ضمان من ضمانات الوجود والسلام في منطقة شبه الجزيرة العربيَّة، وعندما أعلنت السعودية مع حلفائها عن قيام العمليَّات العسكريَّة كانت مسوِّغات هذا القرار أهدافًا يمنيَّة بامتياز تمنع تحوُّله إلى وطنٍ مرتهن لقوَّة أخرى تنفِّذ أجندتها السياسية فوق أرضه.
واليوم وبعد إعلان (اتفاق الرياض) التاريخي تؤكِّد الرياض أن وحدة اليمن يجب أن تكون أولوية تصعد فوق كلِّ مصلحة شخصيَّة، وأنَّ ترتيب البيت اليمني هو الضمان الذي يجعله مؤهلاً لاستعادة مسار التنمية المعطَّل وفق بنود تدعو إلى الحياة والأمل، والاستقرار، لا الخراب والتشتُّت والتبعيَّة للآخرين.
في مشهد المصالحة بالرياض العامرة بدت صورة اليمن الصاعد فوق المطامع، والأهواء الشخصيَّة، لقد كان اتفاقًا يقوم على موازنة القوى وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ صوته، من أجل تأكيد أن هذا الاتفاق هو اتفاق مكاشفة ومصارحة وتعالٍ على الذاتي والشخصي لمصلحة الدولة، اليمن الجديد هو يمن لكلِّ اليمنيين ولا أحد غير اليمنيين.
ثم اكتمل المشهد بوجود دولة الإمارات ممثلة في ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد لتكون الإمارات حاضرة في سلم اليمن، كما كانت حاضرة في حرب إنقاذه، وليُسكت هذا الالتحامُ الأصوات المُنكرة التي ما فتئت تصدِّر آمالها الواهية في شكل أكاذيب لتشويهه، مشهد المصالحة المكتمل هذا هو بداية مثالية لطريق السلام اليمني الذي يستحقُّ أن يحصل على خاتمة لائقة، خاتمة يجب أن ترسمها يد اليمنيين أنفسهم، فيما تقف السعودية بثقلها السياسي والاقتصادي والعسكري خلف اليمن سندًا قويًا وحاضرًا كما كانت دومًا.
إنَّ سلام اليمن يستمدُّ شرعيَّته من أحقية الوجود الحرِّ المستقلِّ، وهو سلامٌ شرعيٌّ ومؤيَّد صدَّقته قرارات مجلس الأمن في الشأن اليمني، وأكَّدته مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي في ذروة أزمة اليمن، وبعد الانقلاب الحوثي على الشرعية، وبعد التوقيع رحَّبت الأمم المتحدة، وكلُّ دول القرار في العالم باتفاق الرياض الذي لم يكن اتفاقًا على شيء أكثر من أن يكون اليمن عربيَّ الوجه والاتجاه، وألاَّ يكون خارجًا عن الصفِّ العربي يخطِّط له أعداؤه ولاءاتٍ ومساراتٍ لا تخصُّه.
لقد كان (اتفاق الرياض) موجعًا لأولئك الذين لا يملكون إلا نعيقًا فوق الخرائب، أولئك الذين يوجعهم صوت السلام، وطمأنينة المصالحة، وتخوِّفهم حريَّة الوعي، وإدراك مآل الأمور، وإلاَّ فمن الذي يتوعَّد - الآن - الأصوات الحرَّة في لبنان والعراق؛ الأصوات التي تقلق مندوبيَّات طهران وتؤجِّج الغضب من وجودها؟!
ممَّا أُثر من كلام العرب أن «التخلية قبل التحلية»؛ ولن تحصل اليمن على أرضية صالحة للبناء والتقدُّم قبل أن تعلن شفاءها التامَّ من المرض الحوثي، ومن أي عصائب مدجَّجة بالفتنة، وسارية تحت لواءات الخراب. ستسود القيم الوطنيَّة الوحدويَّة حين يدرك أرباب القرار في اليمن أن الوطن امتيازٌ لا رهينة للمصالح الضيِّقة والولاءات المشبوهة، على القوى اليمنيَّة أن تُسقط خلافاتها الداخلية أولاً حتى تكون قادرة على إسقاط القوى الدخيلة، لقد كان التشرذم - دائمًا - مطيَّة التدخُّل: والوعيُ المتعقِّل لهذا هو الضمان بألاَّ يعود اليمنيُّون بعد عقود للشكوى من التفريط في فرصة (الرياض) التاريخيَّة.
لقد وضع (اتفاق الرياض) خريطة طريق للسلام اليمني لكنَّ المسألة منوطة بهؤلاء الذين سيسلكون هذا الطريق، وعلى الأيادي التي تصافحت في الرياض أن تعمل على أن تخلِّص اليمن من مسبِّبات أزمته: غلق كلِّ المنافذ التي تنتفع منها قوى إقليمية على حساب اليمن وشعبه ومقدَّراته، أن يكون قوَّة موحَّدة الوجهة، وأن ينشئ حكومة كفاءات متوازنة، على أن يبقى الصوت المسموع - في النهاية - صوتًا واحدًا يجمع اليمنيين بكلِّ أطيافهم، أن يُغلَق البابُ على اختلاف مشروع لا خلاف يحوِّل المصافحة إلى حرب، والفرصة إلى ندم!