د.فوزية أبو خالد
لفت نظري على عجل مقال نشر يوم 7/ نوفمبر 2019 م، فاحتفظت به في مفضلتي لأعود إليه، بعد وضع لمسات أخيرة على كتاب كان علي التزام تسليمه في وقت أزف. وعند قراءة المقال وجدتُ أن وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان قد كتب تصوراً مبدئياً عن موضوع نادراً ما كان يجري التطرق له إن لم يكن من المقبول عادة تهميشه وتجاهله في العمل الوزاري، وهو موضوع وجود شركات «متكافئة» مع المجتمع ومع المعنيين من قطاعاته على وجه التحديد.
وإذا كانت الطبيعة البيروقراطية للعمل الحكومي الوزاري قد كرّست تلك القطيعة مع «الشراكة المجتمعية» في بعض صناعات ما يُسمى «بمجال الخدمات العامة».. كالمجال الصحي أو العمراني أو التعليمي أو جعلتها محدودة فإن هناك توجهاً عالمياً اليوم لرأب ذلك مع تحمل «متطلبات هذه الشراكة». ولربما تكون الدول التي قامت على أكتاف الريع النفطي كدول الخليج هي الأجدر بتفعيل شراكاتها المجتمعية في ظل تاريخ من الاعتمادية المطلقة على اللبس من تفصيل الحكومة وحياكتها دون جهد يذكر في تحمل المجتمع لمسؤولية صناعة المستقبل والمشاركة في تخيله.
والحقيقة أن المقال لا أقول «هيج بما ذكره حزني وأملي معاً» بتعبير الفنان عبدالله محمد، بل أقول إن المقال حفّزني للتفكير بصوت مقروء في بعض من «هواجس الثقافة في طقس الوطن» بتعبير الشاعر عبدالله الصيخان. وأحيا بعض من الشجن الثقافي الدفين في صدر أهل الثقافة بتعبير د. عبدالله السبيل. وأهل الثقافة هنا ليس بالمعنى النخبوي، بل بالمعنى الفكري والوجداني الشاسع في الذاكرة الجمعية وفي الخيال المستقبلي.
وهنا أحاول بعزيمة أن أنجح، فالفشل عدم المحاولة وليس عدم النجاح, الاكتفاء بطرح بعض النقاط من التفكير بصوت مقروء كما أسلفت في الشأن والشجن الثقافي بمجتمعنا السعودي. وفيها لا أدعي أنها تمثِّل آراء كل المثقفين ولا كل المطالب ولكنها قد تعبّر عن هامش مشترك من الأشواق. عل الشاب الذي يدير اليوم أول وزارة مختصة بالثقافة يطلع عليها وعلها توصل له بعض أصوات الحالمين.
النقطة الأولى, أننا في تقديري على الأقل, نحتاج للتوسع في مفهوم «الشراكة المجتمعية» لتمثيل الثقافة وصناعة الثقافة بما لا يقصره على إيجاد إدارة مستحدثة للدعم الاستشاري والمالي ولإصدار أُذونات أو تصاريح للمبادرات الأهلية في «القطاع غير الربحي» لتأسيس جمعيات أو مؤسسات ثقافية أهلية متخصصة. فعلى الأهمية الجذرية لهذا النوع من الشراكة لا بد من توسيعها لتشكل شراكات متعددة بما أشار «مقال الوزير» لبعض أمثلته. فالتوجه لشراكات مع الجامعات والمراكز الثقافية الأخرى كمركز الملك عبدالعزيز الثقافي ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ودارة الملك عبدالعزيز والمتاحف الوطنية ومركز الملك عبدالله للحوار الوطني ومكتبة الملك فهد ومؤسسة الفكر العربي وسواها كفيلة بإكسابنا دربة تبادل الخبرات والعمل بروح الفريق وأفق «الشراكات الثقافية». هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لا بد من خلق سياسات مساندة للثقافة في أفقها العام وفي أفق أطرها المزمعة للعمل الثقافي المؤسسي الأهلي. ومن أهم هذه السياسات حماية حق التعبير وحق الكلمة النزيهة والبحث العلمي والتجديد الأدبي وحق النقد. فمثل تلك السياسات المعزِّزة للشركات الثقافية وللثقافة تعتبر ضرورة لإحداث نقلة نوعية في العمل الثقافي ولتلافي الفراغ المريع والأحادية المستوحشة الذي عاشته الثقافة وعاشه المجتمع السعودي لعقدين من خلال سياسات التضييق وغياب النشاط الثقافي المدني المستقل.
النقطة الثانية: أن هناك حاجة لإيجاد «بنية تحتية» لم تبن بعد للعمل الثقافي الذي كان يعيش «رهين المحبسين» بتعبير المعرّي، إما في ظل الخطاب الرسمي أو في معازل تتراوح من الاجتهاد الفردي المتلفت إلى تخندقات خانقة أو عائمة بعضها كان متذرياً تحت الأرض أو في فراغ ضبابي. وهنا لا يجدي أن تُلحق الثقافة أو تحاول اللحاق بأجواء «الترفيه وفنون التسلية» فذلك مجال والثقافة مجال آخر. ولذا تحتاج الثقافة إلى أرضية صلبة مستقلة تلائم طبيعتها المعرفية فلسفياً وتجسيداً ميدانياً متنوعاً بما يمتاز به ذلك من عمق وجدية (حتى في الأعمال الثقافية الساخرة أو المنتمية لمدارس العبث بمعناه الأدبي والإبداعي) و(بطبيعة الحال حتى في الأعمال الثقافية لمجالات الإبداع المتعدِّدة الأخرى من السينما لفنون الفلكلور ومن النحت لفنون الدجتيل). وهذا يحتاج بدوره لعمل بمنظور إستراتيجي وبمدى مرحلي/ قريب، متوسط وبعيد. ولا يقصد بالبنية التحتية للثقافة الاقتصار على وجود مسارح وساحات ومكتبات عامة وفضاء ثقافية على الأرض وحسب، بل يعني أيضاً وجود «بيئة سياسية وأفق فكري» حاضناً أو في حده الأدنى محايداً وليس طارداً للمغايرة والمغامرة التي لا يتأسس عمل ثقافي حقيقي ولا تجري «تنمية ثقافية» بدونهما.
النقطة الثالثة الأخيرة, هي أن كلمة الثقة الشجية التي أثارها مقال «شريكنا القادر على المزيد» تشير إلى نافذة طالما جرى وصدها وجعل الثقافة لعقود تعيش في مجتمعنا على تنفس ثاني أوكسيد الكربون. وهنا لا بد من المصارحة أنه قد آن أوان فتحها لدخول الشمس والهواء الطلق لعقلنا الثقافي بتعبير عبدالعزيز الخضر. ولا أعني بذلك فتح نافذة علاقتنا مع الآخر الثقافي عربياً وإقليمياً وعالمياً وحسب، بل أعني أيضاً و(كمتطلب تأسيسي) فتح نافذة، بل وباب العلاقة بالذات وببعضنا البعض. فنحن مجتمع متنوّع ثقافياً وحضارياً وجغرافياً وفنوناً ومنطوقاً وهذا والحمد لله جرى الاعتراف به تدريجياً من خلال مكتسب خبرة مهرجان الجنادرية خصوصاً على مستوى فلكلوري وتراثي. غير أن التنوّع الذي لا يزال يجري التكتم عليه وإن كان فتح باب الشراكة المجتمعية قد يعيد له بعض الاعتبار المهدر هو تنوّعنا الفكري وتنوّع المشارب والمدارس والميول والاتجاهات والتيارات الثقافية في مجتمعنا. ولا يمكن أن نتحدث عن طموح ثقافي وعن الثقافة وعن شراكات ثقافية وعن استنهاض ثقافي بأجنحة مهيضة وجناح وحيد. لقد عان مجتمعنا من عاهة الأحادية لعقدين متتالين من الزمن ونيف وتجرعنا مجتمعاً ودولة ومثقفين وعامة من زعاف تلك الأحادية ودفعنا أثماناً باهظة لها من الجمود والتحجر والترهيب والتشكيك والفرقة ولا نريد تكرار ذلك بأثر رجعي معكوس.
وليس من مرشح أكثر من الثقافة لتكون أرضية للتسامح ولتقبل التنوّع والتعدّد والاختلاف والسجال في واقعنا الاجتماعي وللعب دور في تعايش القوى الاجتماعية بتنوّعها الجيلي والجندري والفكري تعايشاً منتجاً يقبل النقد ويعرض عن التنابذ والإقصاء نحو شراكات ثقافية تمثّل جميع الأطياف وتعبّر عن ثقافة وطنية متلاحمة بعمق حضاري وببعد عالمي.
وبعد ....,
هناك نقاط نثرية «عملية» أود اقتراحها على برنامج العمل الثقافي الحافل للوزارة الجديدة. وأكتفي بطرحها هنا على هيئة الأسئلة التسخينية التالية**:
- ما هي الثقافات الغائبة والمهمشة التي تستطيع وزارة الثقافة تقديمها وتعزيزها بالمجتمع السعودي كجزء عضوي من عملية الاستنهاض الثقافي؟
- ما هي أنواع الشعر والأدب من الشعر النبطي إلى قصيدة النثر ومن الرواية إلى مدونات الإنترنيت ومن صناعة السينما واليويتوب إلى صناعة السناب تشات التي يمكن أن يكون لوزارة الثقافة دور في صقل مواهبها وتعزيز تجاربها الفردية أو المتشظية؟
- كيف نحقق حضوراً ثقافياً دائماً في مدن الأدب وفي عواصم العالم الثقافية وفي المؤسسات الثقافية الدولية؟
- وكيف نقدم أنفسنا للعالم عبر خطاب ثقافي مستنير غير تبريري وغير اعتذاري على ألا يكون ادعائياً ولا دعائياً ولا أحاديا؟
- ما هو الإنتاج الثقافي المبكر لأدباء وشعراء ومبدعين تشظت إبداعاتهم على مدى عقود «من سطوة الانغلاق وغياب صناعة الكتاب والمتاحف بالمجتمع السعودي « والذي يمكن لوزارة الثقافة اليوم أن تعمل على إعادة الاعتبار له؟
- هل بإمكان الوزارة انتخاب عينات من ذلك الإنتاج المتشظي في الصحف أو المغبر في الأدراج أو جله وإعادة نشره في كتب كما فعلت جمعية الثقافة والفنون فرع الدمام مع كتابي «كمين الأمكنة» وكمثال اجتراح الشاعر علي الدميني بمجهود فردي لمهمة جمع أعمال الأديب والقاص السعودي المميز عبدالعزيز المشري -رحمه الله- بما سمح لقراء وطلاب اليوم الاطلاع على ذلك المنتج حين حول إلى كتب وأتاح دراساته في أعمال بحثية ورسائل جامعية؟
- كيف يمكن للوزارة الجديدة في هذه اللحظة التقنية الراكضة التخفف من أثقال البيروقراطية المعهودة في الجهاز الحكومي لتساهم في نقض نخبوية الثقافة العاجية وجعل الثقافة خبزاً يومياً للمواطن في تلاحم بين حس المسؤولية والحرية عصب كل ثقافة حقيقية؟
... ... ...
*رابط للمقال الذي أستعرت عنوانه بالإذن من معالي وزير الثقافة
https://headtopics.com/sa/15761583158532168853-9370469
** قد أعود للإجابة على الأسئلة أعلاه في مقال قادم