سهوب بغدادي
فيما نعيش في عصر السرعة وأبعاده، يتسم يومنا وساعاته بالسرعة، فبين لمحة عين وأخرى تجد نفسك في يوم آخر، بل شهر أو حتى في عام جديد، فتقف على أطلال الماضي القريب وسط مشاعر متضاربة عن قرارات وتغييرات الأمس التي غمرتك بدفئها، ورحلت دون سابق إنذار مخلفة برود عام يتخلل سكنات خيالاتك الموعودة. قد تكون مقدمة درامية بشكل مبالغ فيه ولكن هذا حالي وحال العديد من الآباء والأمهات الذين ينخرطون في معركة الحياة وسوق العمل، ومع عصر السرعة وشح الوقت الذي نقضيه مع أبنائنا تبدو تربية الطفل مهمة شبه مستحيلة. لطالما شعرت بالذنب نتيجة ساعات عملي التي تسرق أغلب وقتي، بل مجمله من عمر ابنتي. أراها تكبر كل يوم وتأتي بأفكار تغذِّي بها عقلي تارة وطرائف تذهلني تارة أخرى. أقاطع أنغام حديثها معي على الدوام بسؤال مكرر «هل تحبينني؟» فترد نعم. فأقف في حيرة من أمري وأتساءل: كيف لها أن تحبني وأنا أكرِّس جلَّ وقتي لعملي؟ كم أنا مقصِّرة، وعندما أكون موجودة في المنزل لا أستطيع التفاعل معها على الوجه الأكمل نظراً لإحساسي بالإرهاق الشديد. بحثت ومحصت عن منبع هذا الإحساس وسبل التغلب عليه، فوجدت أن إحساسي يدعى «جلد الذات». حقاً، إنني أجلد نفسي كل يوم وفي كل مرة أراها. وفي المقابل يذكر بعض المختصين في تربية الأطفال والمستشارين النفسيين أن مقدار الوقت الذي يقضيه الوالدان مع الأبناء ليس أهم من الجودة والقيمة التي يضيفها الآباء لأبنائهم في رصيد ذكرياتهم. على سبيل المثال، لن يذكر الطفل وجود أحد والديه لمدة عشر ساعات في اليوم حين يقضيها على الهاتف المحمول أو في مشاهدة التلفاز وهو موجود فعلاً بجسده لا عقله. في حين يتذكَّر الطفل الأحداث التي يتواجد بها الوالدان بكامل حواسهما وإن قلت الفترة الزمنية ومثالاً على ذلك، اصطحاب الأب ابنه أسبوعياً لصلاة الجمعة أو توصيل الأبناء إلى المدرسة صباحاً، أو الذهاب إلى الحديقة للبحث عن الكنز المفقود، وما إلى ذلك من الأمور التي تترسَّب في قلب الطفل على مر الأيام والسنين فتتأصل مشاعر الحب في رصيد المحبة والذكريات لدى الطفل. بعد هذا الشرح، لن أجلد نفسي مجدداً - بإذن الله- علماً بأنني قمت بسؤال ابنتي ما إذا كانت تفضِّل أن أكون ربة منزل أم امرأه عاملة، فقالت اختاري الأمر الذي تريدينه فهي حياتك وليست حياتي! وأضافت: «إنني أتباهى بنجاحاتك أمام زميلاتي، ففي حال لزمتِ المنزل لن أجد ما أتباهى به،ل تذكرين عندما أتيتِ إلى مدرستي في يوم المهنة؟ كنت فخورة بأن والدتي الصحفية الوحيدة في المدرسة، بل كنتِ الأم الوحيدة الحاضرة، لقد أعجب أصدقائي بك». أتمنى أن تكون كلماتها خالدة في مخيلتها لتزيدني قوة. وفي هذا النطاق، تبرز لنا العديد من الحالات السلبية للتضحية أو ما أطلق عليه «بالتضحية السلبية» عندما يرغم الشخص نفسه على تقديم خدمات أو تضحيات لم تطلب منه أساساً! فتمر به السنين ليرتجع ما قام به لأجل شخص أو أشخاص ويقول لقد ضحيت من أجلك! ومن طلب منك هذه التضحية؟ هل الطفل الرضيع سيقول: أمي اتركي وظيفة أحلامك لأجلي؟ وغيرها من الأمثلة التي تتعدى نطاق التربية والأطفال وتنتقل إلى التضحيات على النطاق الاجتماعي والمهني وما إلى ذلك.
(أحب نفسك أولاً، لتحب غيرك)