م. بدر بن ناصر الحمدان
كان أحد الزملاء المخضرمين ينصح صديقاً لنا يعمل على تصميم منزله الجديد بأن يُركِّز على تخصيص ملحق خارجي كبير ومتكامل الخدمات، حيث إنه المكان الذي سيكون مصيره إليه بعد أن يتقدَّم في السن ويكبر أبناؤه، ولن يكون حينها قادراً على التعايش مع حياة أسرته ومحاكاة نمطها، حيث إنه من المتوقّع أن ترمي به الأيام لما تبقى له من عمر في هذا الملحق ويأتيه غداؤه وعشاؤه بشكل مفرد وكأنه في عنبر دار للمسنين.
«ضع قناعك أولاً ثم ساعد الآخرين»، كثيراً ما كانت هذه العبارة تلفت انتباهي حينما تتردد في تعليمات الملاحين قبل إقلاع الطائرة، بالفعل لا يمكنك أن تكون قادراً على إحداث التغيير لمن هم في محيطك دون أن يكون ذلك نتيجة لتغيير حدث بداخلك، هذا النوع من التوازن في غاية الأهمية حتى تستطيع العمل بإيجابية في علاقتك مع هؤلاء الآخرين.
في رحلة الحياة، عادة ما نعيش وهم «التضحية» وننسى كيف نعتني بأنفسنا، نتناسى أننا جزء من هذه المنظومة التي تعيش على الأرض، فالكثير يغرق في مهام ومسؤوليات عمله وعائلته ودائرته الاجتماعية ويتقمّص دور «البطل» الذي قاتل من أجل البقاء وضحى بكل شيء من أجل الآخرين ومات في نهاية الرواية غرقاً في عرض البحر بعد أن أنقذ كل من كان على متن السفينة، ولم يستطيع أحد العثور على جثته التي ربما التهمتها أسماك القرش.
«ما هكذا تورَدُ يا سعْدُ، الإِبِل»، لا تختلق الأعذار، ولا تستسلم للعواطف، ولا تؤجِّل مهما كانت المبررات، تجاهل كل ما يحيط بك، وقرِّر أن تسافر مع نفسك، فلن يتوقف العمل عليك، ولن تضيع عائلتك، ولا أحد سيهمه أين أنت، حتى لو كانت تكاليف هذه الرحلة على حساب مصروف المنزل، أو نفقات المدرسة، أو قوت يومك، كل هذه الأشياء يمكن تعويضها لاحقاً، أما أنت فلا يمكنك تعويض نفسك مهما فعلت، أرم كل هذا خلف ظهرك وغادر ولا تلتفت للوراء.
لنجرب ذلك عملياً، بمجرد أن تكمل قراءة هذا المقال (سواء كنت رجلاً أو امرأة) افتح الآن نافذة جديدة في جهازك المحمول أو من خلال هاتفك الذكي وقدّم لمديرك طلب إجازة لمدة خمسة أيام الأسبوع القادم ولا تنتظر موافقته وليفعل ما يفعل، ثم افتح نافذة ثانية واحجز رحلة ذهاب فقط إلى مكان يعج بالناس وبالضجيج والحياة الصاخبة، ابتعد عن اختيار الأماكن الطبيعية والهادئة، لأن الاسترخاء بها مجرد «خرافة» لن تمنحك سوى مزيد من الوحدة والانعزالية والوسوسة، وأخيراً افتح النافذة الثالثة واحجز في فندق مليء بالبشر يكون موقعه في قلب المدينة المزدحم.
أغلق كل قنوات الاتصال التي يمكن الوصول إليك من خلالها، لا تخبر أحداً عن وجهتك، احزم أمتعتك واخرج من الباب الكبير حتى لو تمسك أهل بيتك بأطراف ثوبك، لا تستمع لاستغاثاتهم، والحق برحلة الطيران، غادر إلى الفضاءات الواسعة، اختلط بكل الشعوب، تحدث مع كل من تقابلهم، مارس الحياة، تجوَل حافي القدمين في أروقة المدينة، اصنع لنفسك دائرة خاصة، افعل ما شئت، استمتع بكل دقيقة تمر من حياتك، واجعل آخر ما تفكر به «رحلة العودة»، ثق أن الحياة لن تتوقف بمجرد غيابك، لا تنس أبداً أن مصيرك إلى «الملحق الخارجي» شئت أم أبيت.
أخيراً، تذكَّر أن السفر ليس كل شيء، بل هو خطوة أولى لإثبات حسن النوايا تجاه نفسك، ولنا لقاء آخر عندما تعود من رحلتك، لأخبرك عن الخطوة الثانية التي يجب عليك القيام بها.
وكما قيل:
«دلل نفْسَك بالحنوّ عليها
لا تكُنْ جالب الهموم إليها،
إن يكن مسّكَ الزمانُ بِضُرٍ
لا تكُن أنت والزمان عليها».