د.عبدالله بن موسى الطاير
يوم الجمعة الماضي عُقدت الجلسة الثانية التي استمرت ست ساعات للاستماع إلى سفيرة أمريكا السابقة لدى أوكرانيا ماري يوفانوفيتشا. ما زالت الأمور في بدايتها، وتستقطب جلسة بعد أخرى المزيد من الرأي العام الأمريكي، وتشجع الشهود على المضي قدماً للوقوف أمام لجنة الاستخبارات في الكونجرس للإدلاء بأية معلومات حول التهم الموجهة للرئيس الأمريكي. التهم حتى الآن هي الرشوة والتآمر مع دولة أجنبية لفتح تحقيق في قضية تخص أحد المنافسين له في الانتخابات القادمة 2020م، بيد أن المتابع عن كثب يلاحظ أن الديمقراطيين يسعون -في وقت لاحق- لمواجهة الرئيس بتهمة الخيانة العظمى.
المؤسسون لأمريكا أعطوا جناحي السلطة التشريعية (النواب والشيوخ) صلاحيات متكاملة، وتم تأطير مهمات كل فرع بحيث لا يطغى على الآخر، وخصوا كل منهما بمهام محددة. مجلس النواب يضم أعضاء منتخبين وفقاً لعدد سكان كل ولاية في آخر تعداد سكاني رسمي، أما أعضاء مجلس الشيوخ فيتم انتخابهم بواقع اثنين عن كل ولاية، بغض النظر عن حجمها.
يقرر الدستور الأمريكي بأن لمجلس الشيوخ السلطة الوحيدة لمحاكمة جميع الاتهامات الموجهة للموظفين الفيدراليين ومن ضمنهم الرئيس ونائبه، وعندما تتم محاكمة رئيس الولايات المتحدة، يرأس رئيس المحكمة العليا الجلسة، ولا يجوز إدانة أي شخص دون موافقة ثلثي الأعضاء الحاضرين. والتهم التي تتم بها محاكمة الرئيس تمهيداً لعزله هي الخيانة العظمى، والرشوة وغيرها من الجرائم والجنح الكبرى التي يقررها الكونجرس.
إجراءات محاكمة عزل الرئيس تسير وفقاً لخطوات قررها المشرعون الأمريكيون وتتدرج في ثلاث مراحل. تبدأ المرحلة الأولى في مجلس النواب بتحقيقات وجمع المعلومات والأدلة والقرائن. والمرحلة الثانية تقضي بأن يقر مجلس النواب، بأغلبية بسيطة، صحيفة الدعوى بما فيها من أدلة وشهود ومعلومات يرون أنها كافية لإقالة الرئيس. وبدون هاتين الخطوتين لا يمكن أن ينظر مجلس الشيوخ في محاكمة عزل الرئيس. وتكون الخطوة الثالثة بتسلّم مجلس الشيوخ القضية وبدء المحاكمة ويكون انعقاد مجلس الشيوخ برئاسة رئيس المحكمة العليا وليس نائب الرئيس الأمريكي كما هو المعتاد في الأعمال الروتينية اليومية.
ما زال الوضع مبكراً جداً، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب وفريقه يسعون لإسقاط المشروع في مرحلته الأولى بحيث تظهر القرائن والأدلة هزيلة وغير متماسكة فتفشل في تصويت مجلس النواب. إستراتيجية الرئيس حتى الآن لم تخرج من حالة الرفض والإنكار، والاستخفاف بالعملية، واعتبارها مجرد مزحة. ربما مع تقدم جلسات الاستماع يبدأ الرئيس وحزبه في استمالة بعض الديمقراطيين بحيث لا تحصد صحيفة الدعوى الأغلبية البسيطة في مرحلة تصويت مجلس النواب. وهي ذات المحاولات التي يبذلها الديمقراطيون لاستمالة بعض الجمهوريين وبخاصة في مجلس الشيوخ. وفي ظل الانقسام العميق في الكونجرس والمجتمع الأمريكي بين الحزبين، لا أظن أن هذا الاختراق سيحدث. الحزب الديمقراطي لديه أغلبية ويمكن بمفرده تمرير القرار في الخطوة الثانية. وللحزب الجمهوري أغلبيته في الشيوخ بحيث يحمي الرئيس من السقوط.
المعركة الحقيقية ستكون في مجلس الشيوخ. وأخذاً في الاعتبار القضية المشابهة للرئيس بيل كلينتون والتي تمثِّلت في اتهامين أولهما الحنث بالقسم، وثانيهما تعطيل إجراءات العدالة فقد نجا منها لأن قرار العزل لم يحصل على تصويت ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ أي 67 عضواً. وبذلك بقي الرئيس في المكتب البيضاوي. استغرقت المحاكة أكثر من 4 أشهر؛ من 8 أكتوبر 1998 حتى 12 فبراير 1999م.
إذا وصلت قضية عزل الرئيس ترامب إلى نهايتها في ظل مجلس الشيوخ الحالي في دورته 116، وبقي الجمهوريون متماسكون، فإنها لا محالة ستفشل، وسوف يبقى الرئيس في مكتبه، ولكنها سوف تضع نقطة سوداء في تاريخه. ويميل الكثير من الناس إلى أن الرئيس ترامب لا يكترث لذلك. عدد أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين 45 ، واثنين من المستقلين، مقابل 53 عضوًا من الجمهوريين. الذي يخشاه الرئيس هو أن يتقدّم للشهادة بعض أعضاء فريقه السابقين من العيار الثقيل من أمثال تيلرسون، وزير الخارجية، أو ماتيس وزير الدفاع، أو جون بولتون مستشار الأمن القومي. مكانتهم لدى الرأي العام الأمريكي (ما عدا الأخير) قد تقلب الموازين وتؤثِّر فعلياً في نتيجة المحاكمة.