عبدالمجيد بن محمد العُمري
بعد فتح باب إصدار التأشيرات السياحية الإلكترونية، سجلت وزارة الخارجية إصدار الآلاف من التأشيرات يومياً، وفقاً لبيانات إحصائية أعلنتها الوزارة، ويأتي ذلك بعد خطوة هي الأولى من نوعها، تُمكن آلاف السياح الأجانب (من 80 دولة) من زيارة المملكة، حيث يمكنهم استخراج تأشيراتهم في لحظات عبر الإنترنت.
ولكن سائحاً بريطانياً قدم إلى بلادنا بلا تأشيرة ورقية ولا إليكترونية وتنقل في عدد من المدن وكان من أوائل السيّاح والرحالة الأجانب الذين وفدوا على بلادنا، فيا ترى من هو السائح الذي جاء إلينا قبل مائة وستين عاماً ؟.. إنه الرحالة البريطاني ويليام جيفورد بلجريف (William Gifford Palgrave) الذي عاش في الفترة ما بين (1826م - 1888م) وهو من أشهر الرحالة الذين زاروا جزيرة العرب، وبالتأكيد بأنه لم يكن الرحالة الأول ولا السائح الأول، بل سبقه الكثير من الرحالين الأجانب الذين زاروا جزيرة العرب، ووصف المجتمع وعاداته الحالة الدينية.
ورحلة بلجريف من الرحلات المهمة والمثيرة للجزيرة العربية التي يكتنفها الكثير من الإدعاءات، واختلف في دواعيها بل تعدى الأمر إلى إنكارها ونفيها بالكلية كما يحكم بذلك هاري سانت جون فيلبي (الحاج عبدالله فيلبي).
وقد ولد بلجريف في ويستمنستر بإنجلترا، ووالده هو المؤرخ الإنجليزي السير فرانسيس بلجريف وكان والده مشهور جداً، وأدى دوراً هاماً في تأسيس «دائرة المعارف العامة البريطانية».
التحق بلجريف بالجيش البريطاني في بومباي، ووقعت عينه على العرب لأول مرة أثناء مروره بمصر في يناير عام 1848م عندما كان في طريقه إلى الهند. ولم تمر سنة على سفره حتى ترك السلك العسكري. وانضم إلى جماعة الآباء اليسوعيين المسيحية.
بدأت زيارة الرحالة الإنجليزي وليم بلجريف والممولة من فرنسا إلى شمال ووسط الجزيرة العربية لأسباب (دينية) في عام 1862م- 1279هـ، وقد تعلم بلجريف اللغة العربية وأتقنها إتقاناً جيداً حتى كادت تكون لغته الأم بل قام يخطب بها بين الناس مما ساعده كثيراً في تنقلاته، وأجاد أيضاً مجموعة من اللغات الأوروبية.
وكانت محطته الأولى من مدينة مُعَان في عام 1862م/ 1279هـ واستأجر رجلاً سورياً أسماه (بركات) ليرافقه في رحلته، وأطلق على نفسه سليمان العيسى، وتخفى في زي طبيب عربي هو ومساعده، وقد أخذا معهما كمية من الأدوية، بعد أن درس مقرراً في طب المناطق الحارة.
وسار هذا الطبيب المزيف ومعه مساعده من مدينة مُعَان إلى مدينة الجوف، واتخذ بلجريف أسلوباً ذكياً بالتقرب للحكام وعرض خدماته الإنسانية عليهم وليسلم من عامة الناس، وهذا ما فعله مع حاكم الجوف وكان حاله حال غيره من الحكام فلم يكتشفوا أمر وحقيقة هذا الطبيب، وكان عندما يريد الانتقال من مدينة إلى مدينة أخرى يطلب وساطة الحاكم والأمير المضيف للشفاعة والتوسط للقدوم على البلدة الأخرى والدخول على أميرها، فكانت وجهته الثانية إلى حائل وعلى أميرها، الأمير طلال بن رشيد، وقد بقي مدة في حائل ودوَّن أخباره و ملاحظاته، مثلما فعل في الجوف عن كل شاردة وواردة، ثم انطلق من حائل إلى بريدة، ومن بريدة انتقل إلى الرياض مروراً بسدير واستقبله الأمير فيصل بن تركي بعد أن أخذ ورقة من أمير حائل يشفع له بها في القدوم، وفي الرياض أقام لما يزيد على الخمسين يوماً ودون في مذكراته الكثير من تفاصيل الحياة الاجتماعية للسكان، ووصف الرياض ومابها كوصفه للمدن والقرى والعادات والتقاليد والحياة الاقتصادية وغيرها، ويتبين في الكتاب نبرة التعالي الزائدة، على المجتمعات العربية والشرقية عموماً وحقده على الإسلام والمسلمين.
وقد نشرت هذه الرحلة باللغة الإنجليزية للمرة الأولى عام 1865 في جزءين وتزيد صفحاتهما عن 1200 صفحة من القطع الكبير، ويدّعي بلجريف في مقدمة كتابه؛ أن الغرض من الرحلة هو الأمل في تأدية بعض الخدمات الاجتماعية لشعب تلك المنطقة الواسعة ورغبته الملحة في التواصل بين أوروبا وجزيرة العرب.
والحق أنه لم يكن كذلك فهو (منصر) و(راهب) جاء لمهمة دينية ويقال أن فرنسا هي من كفلت رحلته ومهمته واستعد لهذا الغرض مبكراً، وقد اعترف بلجريف فيما بعد أنه كان يهدف من خلال انضمامه إلى هذه الجماعة للعمل كمبشر بالنصرانية بين العرب.
ولتأكيد المهمة الحقيقية له قال عنه المستشرق د. روبن بدول [مؤلف كتاب بلاد العرب القاصية]: «بلجريف جندي وراهب يسوعي وعميل سري (جاسوس) وأخيراً دبلوماسي».
ونعود إلى رحلته إلى الرياض وهي جزء من رحلته الطويلة وتنقلاته التي امتدت من فلسطين إلى نجد ثم الأحساء والقطيف فالخليج العربي، وذكر شيئاً من الحالة العلمية في جامع الإمام تركي بن عبدالله وبعض أخباره مع الإمام فيصل بن تركي والشيخ عبداللطيف آل الشيخ وأحاديثه معهم واستعداده بالمعلومات لمايقال عن الوهابية والتملص من نصرانيته وادعائه الإسلام ونفيه الجاسوسية،كما وصف الرياض ورسم خارطة له، وقسم الرياض إلى أربعة أحياء رئيسة: الحي الشمالي الشرقي، مقر قصور الأسرة المالكة ومنازل موظفي الدولة وطبقة الملاك الأغنياء. الحي الشمالي الغربي، وكان على هيئة كتلة كبيرة من المباني الطينية، وكان يسكنه الأغراب ورؤساء القرى وأهل البادية. الحي الجنوبي الغربي، وكان مقر العلماء إذ سكنته أسرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ووصف مساجده بأنها حافظت على بساطتها. الحي الجنوبي الشرقي، وعَدّهُ من أسوأ الأحياء من حيث التنظيم وانخفاض الأرض وتلوث الهواء (جنوب الرياض منذ القدم وهو- شكمان).
وكان من الطبيعي أن يعرج على ما يجاور الرياض من بلدان قديمة كالدرعية ومنفوحة وتاريخهما وما جرى فيهما من أحداث ومن برز من الأعلام، وخلال مناقشات عديدة مع الأمير عبدالله بن فيصل بن تركي والشيخ عبداللطيف آل الشيخ استحس بلجريف بقرب اكتشاف حاله وعزم على الرحيل بهدوء قبل أن يفتضح أمره.
وقد ترجم كتابه للعربية عدة مرات في ترجمات متباينة غلب عليها التصحيف في أسماء البلدان والأعلام من المؤلف ومن المترجمين على حد سواء، وتناول المستشرقون سيرة بلجريف في كتب مستقلة وبحوث خاصة وفي المملكة كان السبق في الكتابة عن رحلة بلجريف في مجلة العرب لناشرها الأستاذ حمد الجاسر وممن تناولها بحثاً ومقالاً أيضاً د. عبدالله العسكر، وأ. عدنان العوامي، ود. صالح السنيدي والأخير يعد كتاباً عن بلجريف ورحلته ونحن والقراء ننتظر إثراء المكتبة العربية ببحث أد السنيدي.