«ليلى» غير التي ماتت في محراب عينيها ابتهالات الشاعر حسن المرواني، ولا ليلى التي أرسل لها الليلُ سلامه مع وديع الصافي ولا ندري أبلغها سلامه وعتبه أم أذاب فؤاد الشاعر قعقور لهفةً.
حين تحاول الكتابة، لن تنفك الأفواه التي تحبها تطلب منك أن تكتبها، أن تقرأ نفسها في كلمات تستجدي الفصاحة، ورغم هذا لا أذكر أبدًا أنني كتبتُ شخصًا، أو قصدتُ محاسنًا في إنسانٍ بعينه؛ الافتراض هو ملتي التي أعتنقها في الكتابة.
إلا أنني وجدتُ نفسي ظهيرة هذا اليوم في مواجهة صعبة مع التأمل، لم تسلم من فؤادٍ يعصر نفسه فيسيل عبر مدامع العين. لم يكن الحديث مع ليلى.. ليلاي، لا ليلاهم المُترفة بعذابات الحُب في ساعات فراغ متفرقة على الأيام ومتراكمة في إدراكهم بالهدر الحاصل كالذي حدث مع ابن زيدون حين ضحّت به ولادة بنت المستكفي مبررة كي لا ينقطع عن كتابة القصائد فبدتْ ضحية في أعين الجمهور المحروم من لذة العشق.
«ليلى» التي تأملتها كثيرًا بينما أستريح في المقعد الأسود في مقهى النادي الرياضي الصغير، بكل فواتح الألوان التي ترتديها، وابتسامتها التي ما أخطأت الصدق مرةً، كأنها لا تملّ من أن تتزين به! ليلى الأم ذات القلب الرؤوم حين تمشي تشعر بأن روحها المرحة تُحلق، لن تدري أبدًا أن طائرات الحرب حلّقت فوق ليلى بينما كانت تعيش مخاضًا لولادة إنسان جديد. لن يطرق الخيال باب تصورك أن هذه الشابة التي يبدو على ضحكتها ترف البرجوازيين رقدت بين جدران الغُربة أعوامًا وأن الأمان الذي يُصدّره حضورها فتُفشي لها سرًا بيقين الذي كتمه وما أفشاه أبدًا جاء بعد أن تأكسد الخوف والقلق بداخلها فاستحال الناتج أمانًا ظاهرًا.
لطالما كانت الحرب لعنة تصيب وطنًا، لكنها للمرة الأولى تُصيب شخصًا ألحظ مقاومته كل يوم، يقاوم أحداثًا لم يختر خوضها، أقامت آثارها بداخله وسجلها التاريخ كنكبة ولم يسجل أحدهم أن النكبة لم تقصف أرضًا، بل قصفت قلبًا تقاسمه أيامه.. يضحك في وجودها، يأكل في وجودها، يُحب في وجودها، يمرح في وجودها، ويتنفس في وجودها. لم تغادره أبدًا؛ يسميها العالم تاريخ وهي حاضرٌ فيهم!
كريمة الأيام التي تحمل في ثناياها عُظماء لم يؤرخهم التاريخ حبرًا على ورق ليُطعنوا بتخوين المخالفين لملتهم أو يُمجدوا بتأييد المُريدين لهم! عُظماء خاضوا الشقاء وحيدين، دفنوا في كبد الماضي معاناتهم في الليالي الظلماء الطويلة خلال الساعات التي كانت دقائقها عُمرًا شعروا به يزحف على أفئدتهم، وعدد الاستفهامات عن شكل المستقبل إن كانت اللحظة الراهنة نفسها لا تشبه مستقبل أيامهم الماضية الذي علقوا عليه آمالهم الكبيرة! واستعدادهم على تخطي اليوم بأعوام خمسة قادمة، أن يضحوا بالزمن وبزهور العمر.
كريمة حين تُبدل وجهتك لتقابل من بعثوا الحياة من فوهة مدفع، حيث كان للسير على طريقها ثمنه، ولوخز أشواكها ثمن، ولهداياها مُقابل، كان البذل مقابل كل عملية أخذ.. ورغم الإرث الذي تُرك لأجل العيش كانت الحياة تتجلى في ملامحهم! لكأنك ترى تورّد ألوانها في إقبالهم، لتكتشف لاحقًا بأن كرم الدنيا غمرك فيهم ما كرمهم غمرها! وأن غنائمها منهم أكثر من مغارمهم! ثم يُحييون في أنفسهم ما ظنْت أنها أماتته فيهم!
تمشي بعاديتك محاذاتهم، تصافح يدك قصصهم المختبئة في أوردتهم، يحتضونك بجسد وهن كثيرًا قبل أن يشتد عوده ليقف أمامك بكل هذا الثبات ويغمرك بكل الحب الذي خاض معاركًا ضَروس ليبقى، تسمع منهم كلمات عادية بنفس الصوت الذي هتف عاليًا للسلام!
شعرتُ بالمعنى ظهيرة هذا اليوم!
أن يكون لوجود الفرد معنى! وللحياة فيه معنى! الحياة بكل لذة التخطي، رغم أن ما خلّفته أحداثها فيهم باقٍ ما بقوا.. معنى الوجود، معنى الفرح، معنى الحُب، معنى البذل، معنى الدفء ومعانٍ كثيرة تُحيا بكل ما أوتوا من مقدرة على الشعور.
صافح ما استطعت من أيدي لكن تأكد بأن يكون عناقك لأيديهم هيْنًا لا يُزعج ما تُخفي جلودهم يعلمونه ولا نعلمه».
** **
- هياء بنت عبد العزيز الزومان