صمت مطبق؛ رياح تخترق أطلالاً تحدث صوت فراغ يعيد إلى الذاكرة يوميات عائلة بيت عريق، ظل وسيظل ملء السمع والبصر؛ ذكرهم لا يزال حميداً؛ دارهم كانت تعجُ بخدم وحشم يعاملونهم كأفراد عائلتهم، ضيوف يغادرون وآخرون يفدون.. هكذا؛ كان حال بيت عائلة لم يبق من رؤوسها على قيد الحياة سوى امرأة سليلة بيت شرف وعز، تعيش بالقرب من أبناء إخوتها وأحفادهم.
أدمن الإصغاء لحديثها حين تسرد أجواء وأحوال عائلتها، عشق الجلوس بجانبها، وازداد قربه منها بعد أن فقدت بصرها إثر عملية في أكبر مستشفىً للعيون، استسلمت لقضاء الله وقدره، الابتسامة لا تفارق محياها، حين يقبل رأسها قادمًا أو مودعًا، تطبع قبلة من الصعوبة وصف أثرها، وكأنما زيارات أبناء إخوتها تترى للظفر بدفء وحرارة قبلة نقية صادرة من عمق محبتها، بيد أن قبلة الوداع أعمق يخالطها أمل أن تظفر منه برائحة أحد أشقائها الذين قضوا.
خلال أحد لقاءاته معها،كانت للتو بدأت تتناول نزرًا من طعام قدم إليها، بعد السلام عليها، قبل رأسها وجلس بجوارها، غدا طعام الغداء بالنسبة إليها محض واجب رتيب، أقسمت عليه أن يتغدى معها، شاركها؛ كانت تجامله استمرت تتناول القليل، أدرك حينها لم يعد لديها شهية لأكل، أومأ إلى خادمتها، أحضرت إبريقًا فضي اللون كان يصب منه الماء على باطن كفها الأيمن، وإناء فارغًا يتربع على طاولة خشبية يستقبل الماء المتسرب عن غسل يدها وفد امتزجت به رغوة صابونها المفضل «لايف بوي»، أنهت غسل يدها ثم مدت يسراها لموقع علبة مناديل ورقية بمكانه العتاد حيث لا تخطئه يسراها، انتزعت منها قدر ما يروق لها جففت يدها وفمها، ونبذته بسلة تحت سقف طاولتها ومن النادر يظل طريقه.
استأنفت حديثها تنسج من ذاكرة حبلى بالأحداث والمناسبات عن أيام زمان، وجبة الغداء كانت مفتاحَ حديثها الشجيَّ، سردت جانبًا من ذكرياتها تغرس من خلالها قيم آبائهم وأجدادهم؛ تنوِّر به أجيالاً نبتت من أصول كريمة، وهكذا ظل الدار وأهله عنوان سؤدد وعز وأنفة.
واصلت ذكرياتٍ لم تطوِها أزمانٌ فرادةَ عبقها، وصفت صخب أنعام كان محموداً؛ ينبعث من زاوية البيت النائية؛ تتذكر تفاصيل التفاصيل؛ بطرف الدار خراف وتيوس، تنتظر على من سيكون لقادمين لزيارة أو ضيوف؛ تشير بيدها، هنالك كانت حظيرة أبقار؛ تُحْلبها خادمات، أواخر المساء يشرب منها طازجًا من أراد، أو وافدٍ من ضيوف، خصوصًا مع وجود إخوتي أو بعضهم لقضاء إجازتهم؛ مع بزوغ فجر؛ يحضِّرن منه لبنا؛ يقدم مع طعام الإفطار، من خبز ذرة مخمَّر ولحم حنيذ كانت تعده أوسط أخواتها، تُختار من حظائر قابعة بضفة الوادي الشمالية، لا تبعد عن الدار سوى أمتار لا تزيد عن المائة متر، لكل صنف من الأنعام حظيرة، ومثلها مخصصة للأبقار.
ومن الثيران المخصصة لحراثة الأراضي الزراعية، وعشرات الإبل يقدم حليبها وحليب أبقار حسب أمزجة الزوار والضيوف بالمساء، وأوانٍ من فخار لزبدة الضأن، وأخرى لزبدة الماعز، ومن حجر لزبدة البقر.. أخذت نفسًا طويلاً وتنهدت، تستلهم ماضٍ تتحسر على غياب شخوصه، وبابتسامة رضا عن شريط ذكريات آسِرٍ واصلت حديثها: «من الضحى تنشط الخادمات وأهل البيت معًا يدًا بيد لا فرق؛ لإعداد طعام الغداء، يوقدن التنانير، ويضعن مغاش اللحم -آنية مصنوعة من الحجر الصلد- بقعر تنور آخر يُعَدُّ اللحم حنيذًا؛ وبتنانير أصغر يخبزون دقيقا لإعداد «المرسة» وخبز ذرة مخمر، وغير بعيد يضعون فحمًا مسجَّرًا تحت أثافي لإعداد الأرز بقدر حجري كبير».
وتكمل: «في خزانة الحبوب تتدلي خيشة موز «ضيعي» -نسبة لسوق الضيعة اليمني- تم ابتياعها ولمَّا تنضج كي لا تفسد، يأخذن منها ما استطاب للمرسة؛ كوزٌ مصنوع من الخزف «الصيني» يحتضن عسلاً معتَقاً من زهرة شجر السلم؛ وبطول المخزن؛ رُصَّت أكياسُ الذرة ودقيق القمح الأبيض والأسمر «البُّر».
وحين أتت على يوم الجمعة؛ أشرقت ابتسامتها أكثر مما كانت، وهكذا سمتها، على الدوام تسبق ابتسامتها أول كلمة من مشهد جديد، مستأنفة حديثها: «أمام في يوم الجمعة من كل أسبوع يتخذ الرجال متكئاً يتسامرون، فيجلس من أراد من بعد تناول الغداء؛ يتبادلون أطراف الحديث إلى صلاة العصر، ويواصلون «جلستهم» إلى المغرب يذهبون للصلاة، وبعدها يتبادلون يستكملون أطراف الحديث، شهدت ذلك وكنت بسن الثامنة، أدلف إليهم، يجلسني والدي بجانبه، وقبل أن يحين أذان العشاء، يتناولون القهوة والشاي، وينصرفون لصلاة العشاء.. وبعده يبدأ مجلسهم، هذا يكتب والآخر يقرأ، على ضوء «أتريك بتروماكس» يتربع عادة على جدار بالقرب من متكئهم، ينتهي مجلسهم الأسبوعي إلى قبيل منتصف الليل، الأصدقاء من المدينة، ينصرفون لبيوتهم، والضيوف من خارج المدينة، يتوجهون إلى النوم بالمكان المخصص لهم، في الصباح بعد صلاة الفجر يتناول الضيوف إفطارهم وقهوتهم ويتوجهون مع مضيفيهم إخوتي لتفقد مزارعهم إلى أواخر الضحى.. وهكذا دواليك.. ومنهم من يقصد مقر عمله، وينصرف الضيوف، كانوا متآخين، وأربعتهم أشقاء، يأنسون لاستشارة أخواتهن بكل أمر، يفضفضون لهن عما يعتلج بصدورهم».
وتنعطف إلى إخوتها: «حين يقدمون من مقار عملهم البعيدة، لا يبدؤون بيوتهم قبل أن يطمئنوا على شقيقاتهم، تنهدت وأتمت حديثها قائلة: «كانت الأنفس نقية نقاء ماء زمزم، والأرواح متصلة على مدار الزمن.. سائلة الله أن يلحقها بهم في مستقر جنته، وبعد الزيارة بأيام لحقت بإخوتها الأربعة وأخواتها الأربع».
** **
- محمد المنصور الحازمي