لم يكن وحيدًا مطلقًا.. ولم يكن مختلفًا.. بل إنه شبيه لعدد كبير يحملون كل مواصفاته، الحجم والوزن، أحيانًا يبلغ عددهم الألف أو يقلون أو ربما يتجاوزون ذلك بكثير، هو ورفقاؤه مصيرهم مجهول، بعضهم يتنقل في أماكن مختلفة، وبعضهم يبقون في مكان واحد لسنين طويلة، بعضهم يكون لهم حظ الخلود والبعض الآخر يكون عمره قصيرًا جدًا.. ربما أيام أو أشهر.
يطلق عليه اسم كتاب، ويطلق على كل الذين معه وهو من ضمنهم كتب.
هو يعرف أن الكتب مقامات، ويثق بأنه لن يصل لمستوى «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين» وإن تشابه الشكل والورق، ولكن يعرف الفرق بين كلام الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام البشر، ويعرف أن مقامه بسيط.. بسيط جدًا، هو ليس بكتاب فكر، وليس لكاتب كبير، بل باكورة إنتاج كاتب شاب، وهنا أمر مختلف إلى حدّ ما، بالطبع هذا الاختلاف لا يخصه لوحده فقط بل لبقية الألف نسخة المشابهة له، ولكن من حسن حظه أن يختاره المؤلف الشاب مع مجموعة نسخ مشابهة، لتكون لديه في بيته، وهذا ربما يضمن له الخلود.
هو لا حول له ولا قوة، يستسلم للأيادي التي تتناقله، ومع ذلك يراه أغلب الناس أنه أفضل صديق، وثمة أخبار كثيرة ومتداولة بين الناس عن العلاقة بالكتاب، بل إن هنالك مؤلفات كثيرة عن الكتب وتاريخها وأهميتها، ومع هذا التاريخ ومع التحولات يعرف أنه يقع في الوسط بين الكتب القديمة التي دونت على البردي وورق جلود الحيوانات، وبين ذلك الكتاب الافتراضي الرقمي الذي يظهر على شاشة جهاز الحاسب الآلي أو اللوحي، إنه في الوسط له جسد من ورق، لا يعرف بالضبط هل أصله شجرة أو مصنّع من مواد حديثة لا يعرفها، عمومًا هو كتاب ورقي بغلاف عادي بسيط، يحمل عنوانًا، لا يعنيه مطلقًا العنوان، يمسكه صاحبه بفخر ويدون عليه إهداءً لأديب كبير، يتضح ذلك من التعرق الذي أصاب يد ذلك الكاتب الشاب، إذًا لن يبقى في بيت المؤلف، بل سينتقل إلى بيت ذلك الأديب الكبير، ربما مكتبته أكبر، ربما مملوءة بكتب مختلفة المقاسات والأحجام. أمر جيد، لا بأس، هذه حياته، لو بقي لدى الكاتب الشاب، حتمًا بعد زمن سيصبح كاتبًا كبيرًا إذا كان فعلاً مخلصًا لكتابته، ولأصبحت مكتبته من كبريات المكتبات المنزلية، عمومًا انتهت علاقته بذلك الكاتب الشاب، وانتقل إلى ذلك الرائد، الذي تناول الكتاب من يد الشاب شاكرًا له إهداءه وواعدًا إياه أن يطلع على ذلك الكتاب، ويعطيه رأيه بمضمونه وشكله، ثوان معدودة أحس فيها الكتاب بيد ذلك الرائد، ثم ما لبث أن انتقل ليد أخرى لتحمله مع كتب أخرى إلى مكتبته، هل سيبقى لسنوات منسيًا في تلك المكتبة، هل سيتناوله ذلك الرائد، في يوم ما ويطلع عليه ليقول رأيه في مضمونه، كما وعد الكاتب الشاب، ولكن الرائد فعلاً يقرأ، ويتناول بعض الكتب الكبيرة، بكل تأكيد مضمونها مهم، أما هو فمن سوء طالعه أن ما بداخله من مضمون متواضع، كتواضع ذلك الشاب، ما بداخله ليس بشعر ولا قصص ولا رواية بل خواطر، مجرد خواطر، ربما ليست من واقع تجربة بل بوح كتابي، قد يكون جيدًا لمراهقة تحمله معها، وتضعه في حقيبتها، ليحاط بروائح زكية، تمنى لو كان ذلك مصيره، ربما لن يضمن الخلود، ولكن سيشعر بالمتعة وبالذات عندما تكون الأنثى رفيقته ولو لبضع ساعات، ولكن لماذا أهداه لذلك الأديب الكبير، ذلك الرائد الذي قضى حياته بين أمهات الكتب، ربما فكر الكاتب الشاب أن ذلك شيء من التقدير، والبحث عن نصيحة أو توجيه، عمومًا، الكتاب يقبع في ركن منسي من مكتبة الرائد، لسنوات طويلة، لا يعلم الكتاب ملقًا من أن اليد التي تناولته لبضع ثوان أصبحت تحت التراب، وأن تلك المكتبة الكبيرة أصبح مصيرها مجهولًا، توقع أن ينتقل مع كثير من الكتب النادرة والمهمة إلى إحدى المكتبات العامة أو المتخصصة، ولكن فوجئ ذات يوم بمجموعة من الرجال يقومون بوضع أغلب الكتب في كراتين ويحملونها، بقي الكتاب مع مجموعة أخرى شبيهة له وبعض الصحف والمجلات والأوراق الممزقة مرمية على الأرض لفترة من الزمن، ليجتمع عليها الغبار، ويقطن بعضها الحشرات، وتجتاحها العثّة، أصاب الكتاب الذعر ورأى الموت بعينيه، أنقذه من ذلك قيام عاملة منزلية بتنظيف المكان لتحمله مع بقية الأوراق والصحف إلى حاوية زباله في الشارع، ليجده عامل نظافة، يحمله بعد أن يزيل التراب الذي علق به ويضعه في مكان مرتفع ربما تلتقفه يد حانية وتهبه الحياة مرة أخرى.
** في منتصف الثمانينات الميلادية بدأت بنشر نصوص قصيرة جدًا، في الملحق الثقافي بجريدة المسائية بعنوان فراغات، ثم انتقلت هذه الزاوية في أواخر الثمانينات لمجلة اقرأ الأسبوعية، بعد زمن اخترت النصوص مكتملة عناصر القصة القصيرة جدًا فيها لتصدر ضمن مجموعة «فراغات»، في عام 1992م وفي أواخر التسعينات الميلادية عادت الزاوية إلى جريدة الجزيرة لمدة تتجاوز العام، وها هي تعود للمرة الثالثة للمجلة الثقافية بجريدة الجزيرة، إحساسًا بأن هنالك من الفراغات ما يحتاج أن يملأ.. فهل تصمد هذه الزاوية.
** **
- عبد العزيز الصقعبي