كانت مكتبة أبيه تحتل مكانًا علويًّا يصعد إليه على درج في (ليوان القهوة) في بيت الطين، وكانت مكانًا محترمًا لا يدخله وحده في تلك السن الصغيرة، ثم انتقلت إلى حجرة قرب حجرة أبيه في البيت الجديد، وهناك بعد أن تعلم القراءة شغف بالتردد عليها، والاطلاع على ما فيها، ولكن ما استرعى انتباهه كتاب من تأليف أبيه، اسمه (الخلاصة في تقويم الأوقات والفصول)، طالما كرر النظر فيه، وقرأ مقدمته مرات ومرات، وتمنى أن يؤلف كتابًا مثل أبيه، ثم اكتشف صدفة كتابًا آخر من تأليف أحد أعمامه، اسمه (البسيط في المحاسبة لغير المحاسبين)، وفي عام 1407هـ جاء جدُّه زائرًا من الطائف حيث كان يسكن، ومعه مجموعة من الكراتين، فيها نسخ من كتاب له طبعه حديثًا، اسمه (المجموع المنتخب من المواعظ والأدب)، وهناك عمل حب التقليد ما عمل في نفس ذلك الفتى الصغير، فعزم أن يؤلف كتابًا كما ألَّف آباؤه، وكتب مرة بعد مرة، وكان الفشل يلازمه فيها، فحينًا ينتهي زاده سريعًا، وحينًا يئد الملل مشروعه، ومرة بعد أن كاد العمل ينتهي تراجع أن يفصح بما لديه، خشية ألا يجد عمله عينَ رِضا.
وتشجع في الرابعة، فلما انتهى من كتابه عرضه على أبيه، يريده أن يطبعه! فلما رآه الوالد، أخذه مزيج من الشفقة والإعجاب، غير أنها لم ترد الوالد من التصريح له بأن وقت التأليف لم يحن بعد، إلا أن الفتى لم يستوعب، وأصر على طلبه، فأتى الوالد بعذر آخر، فقال: حتى لو وافقنا على طبعه، من سيقرأ خطك؟ لن تستطيع المطبعة قراءة ما كتبت! وكان خط الفتى رديئًا جدًّا.
لم يستسلم الفتى، وفكر في حل للخط، فرأى أن يستعين بأحد أصدقائه، يملي عليه ويكتب، وفعلاً، وجد صديقًا جامله، فأملى عليه كُتيبًا في الفقه، غير أن في الحاجة إلى الناس ما فيها، فوجد حلاًّ أحسن وأجدى، طلب من أبيه آلة كاتبه، وتحقق له بعد مدة ما أراد، فرقم فيها كتيبًا في النحو، وآخر في اللغة، وأصدر مجلة وزعها على بعض أصدقائه.
كبرت أحلام الفتى معه، فما نال شهادة المرحلة المتوسطة إلا وقد جمع كتابًا في حوالي ثلاثمائة صفحة، عرض بعض فصوله على معلميه، وتكفل أخوه -عليه رحمة الله- بطبعه على نفقته، فكان فضلاً لأخيه عليه لا ينساه، وهو واحد من أفضال كثيرة.
أشار عليه بعض أهله أن يهدي نسخة إلى وزير المعارف -آنذاك-، وتكفل أحد أبناء عمومته أن يتولى إرسالها إليه، فكتب خطابًا من إنشائه، ووجهه إلى معاليه، وقد أشار فيه -بتوجيه من أبيه- إلى سنه، من خلال بيان مستواه الدراسي، وكأن الأب يريد بيان العذر للوزير إن رأى الكتاب ليس بذاك.
أرسل الكتاب، ولم يكن يرجو شيئًا، أيَّ شيء، وذات ليلة، وهو يتناول العشاء مع والدته، والأخبار العالمية في النشرة المصورة الرئيسية تبدد صمت المكان، إذا بجرس الهاتف يرن، أخذ السماعة قبل أن يخفض صوت التلفاز، وإذا بمن يسلم ويطلبه باسمه، أجاب، وعرفه أن أنا من تريد، قال: معك عبدالعزيز الخويطر، أردت أن أشكرك على الكتاب، فهو معي الآن، وأقرأ فيه.. لم يكن العنوان واضحًا فأردت أن تكون المكالمة بديلاً عن الرسالة الخطية.. انتهت المكالمة بالشكر الجزيل والدعوات.
لم تسع الفتى الأرض تلك الليلة، أن كلمه وزير المعارف يشكره، أخبر والدته ساعتها، وقفز إلى والده ليخبره، وفي الصباح تمنى أن يخبر جميع زملائه، لولا أنه خشي ألا يصدقوه.
لما طبع كتابه الثاني، (التعليقات الجوهرية على متن الآجرومية)، كان أول من أهدى إليه معالي الوزير، فأرسل معاليه له شكرًا خطيًّا، ضمنه إهداءه لكتابه (ملء السلة من ثمر المجلة)، وكان معاليه بعد ذلك يهدي له كل كتاب يصدر له.
ولما نُشر لصاحبنا بحث في مجلة محكمة، أهدى مستلا منه لمعاليه، فرد عليه هذه المرة بخطاب كتبه بيده.
تواضع الوزير، وتواصله مع تلميذ في الثانوية، واقتطاع جزء من وقته في كتابة خطاب شكر، وعبارة إهداء وتوقيع على كل كتاب يصدر، بل وكتابة اسم المرسل إليه وعنوانه بخطه، لم يستعن بسكرتير من البشر، ولا من التقنية، أمور تدعو للعجب، فالكل يعرف مسؤولية الوزير ومقدار عمله، وهو ليس كأي وزير، فمهامه وأهميته غير خافية.
مضت السنين، وكلف صاحبنا بشيء من مسؤولية، وعرف معناها، وهمها وأذاها، واشتغال التفكير بها خارج وقت الدوام، وعرف ثمن الوقت، وأدرك عيانًا كيف يتنازل المسؤول عن أمور مهمة أمام ما هو أكبر منها، فعادت به الذكرى إلى معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر -رحمه الله-، حيث لم تنسه المهام الكبرى دقائق الأمور، ولم يتنازل عن دعم طالب الثانوية.
لم يكن شكر التلميذ من مهام الوزير، وإن أراد المثالية والكمال في أداء المستحب فليقم مكتبه بالمكاتبة، ولكن من يدرك حاجة النفس، ويفهم معنى التعزيز والتشجيع، ويستحضر قيمة التواضع، لا ينيب غيره في تحصيل الخير، ونشر المحبة، وزراعة الأرض إيجابية وتفاؤلاً.
لما عد هذه الأمور الصغار كبارًا، جعل لها جزءًا من وقته، فأحسن أي إحسان.
كم من مشغول متشاغل، ضيَّع عليه سوءُ إدارة وقته خيرًا كثيرًا، أهمل الواجبات، وتساهل في أداء المهمات فلم يتقنها، معذِّرًا لنفسه بالمشغلات، ومخدِّرًا ضميره بالأعذار الواهية.
لقد كان عبدالعزيز الخويطر -رحمه الله- مثالاً في تنظيم وقته، والدقة في إدارته، فإضافة إلى أعماله الرسمية الكبرى، فهو يكتب وينشر، لم تنقطع مقالاته، ولم تتوقف زواياه في الصحف والمجلات، وكانت كتبه تتوالى في الصدور تباعًا.
ومع هذا كله، فالاتصال به ميسر، جواله متاح، ولقاؤه سهل، بارك الله له في وقته، وفي ذكره، وأسأل الله أن يبارك في عقبه وأثره.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف في جامعة القصيم