لفت نظري هذا العنوان (كيلا يؤرخ أيلول)، واستحوذت على انتباهي العبارة التي خُطت تحت العنوان (معطيات في شرعة الاختلاف). وحين انتهيت من قراءته شرعتُ في كتابة هذه السطور، إجابة ربما يتخللها القصور للتساؤلات التي نادت بها تلك الكلمات.
ربما أستطيع القول بصورة أدبية خالصة بعيداً عن المصطلحات المقالية إن الكتاب «نداءات» أو «إشارات» أو «تنبيهات» لكنه على الأرجح عندي مجموعة من الأسئلة التي حان وقت إجابتها من أحرف الزمان وكلماته.
رغم أن الأسلوب دفاق ممتزج بالاستفهامات التي تحاول أن تجعل القارئ على مسافة ممكنة من الإجابة، إلا أنه في كل سؤال يَبرُز أمام العقل تتعدى إجابته حدود الزمن والمكان أيضاً.
هذه المعطيات في شرعية الخلاف قواعد وأصول تجعل الموقف المخالف بجملته، مقبولاً إذا كان بصورة مشرقة مثل التي أتى عليها الكتاب.
العبارة المذهلة التي نادى بها الدكتور (دعوة للاختلاف دون الخلاف وللتعددية من أجل الائتلاف وللمواجهة بديلاً عن المناورة والمداراة). تخيلوا معي هذا العبارة وهي تنطبق وتتلمذ على أيادي الواقع وبدلاً من أن نجد المراشقات في ساحة الخلاف، نجد أن أكواب الشاي تحضر مع المتخالفين كناية عن مدى شفافية الوضع ومدى رقي الخلاف الذي يفضي إلى آفاق ولن يكون يومًا ما مجرد نفق مظلم لا يخرج منه نور ولا أحد.
لا أعلم إذا استقر في ذهن الدكتور وهو يكتب هذا الكتاب في عام 2005 أن قارئة من المستقبل في زمن يأتي بعد هذا التاريخ بنحو 14 عاماً تقريباً تحاول أن تستقصي هذه الثورة من المفردات وتقيسها على واقع تغير أغلب ما فيه من ناحية الأحداث وحتى القواعد التي تنطلق منها الأحكام وحتى إطار الخلاف والاختلاف؟
ربما كانت الوسيلة الوحيدة للإجابة عن كل تساؤلات الدكتور إبراهيم هي المعايشة لسلسلة هذه المعطيات واقعاً وأخذاً و رداً وغوصاً في انفعالات تلك الأسئلة القريبة البعيدة.
فالوضع السياسي الذي كان يسيطر على الأجواء ويضع الكُتاب والمفكرين للكتابة تحت تأثيره قد تغير بشكل عام، وقد دخلت الساحة السياسية الكثير من المؤثرات التي تدفعنا إلى تغيير قواعد الإجابة في كل فترة ممكنة.
والأوضاع المتبقية هي رهينة هذا الوضع السياسي الذي أنتج أجيالاً تؤمن على الأقل بالتغيير، وتستطيع التغيير من واقع الهزيمة إذا أتت بسياقها المباشر وربما قد تخرج منها بفائدة تذكر.
ربما على الصعيد المحلي أنا مؤمنة بأن رياح التغيير قد أثمرت شيئاً في الاتجاه الصحيح على نحو عام.
ولأني مفرطة في التفاؤل حتى في لجج اليأس وببراءة متناهية أستعير جملة الدكتور كاملة هنا (أفلا يستحق من باب الديموقراطية فقط نمنحه فرصة واحدة بعد ستين من السنين العجاف)؟
غير أني أبشر الدكتور بأن استفهاماته حول ماهية الصدق أو هويته الحقيقية وغياب المصطلح واستحالة وجود معيار عام للصدق أو حتى إيجاد معادلة يمكن بوساطتها حسم معطيات أي قضية، على الرغم من ضبابية الأمور في هذا الاتجاه وعتمتها على الرأي الراجح، لكني أبشره أن هناك طريقًا يُبنى نحو أسس حقيقية وعادلة وصادقة لشرعية الاختلاف أياً كان.
هذه الأمور وإن كان التغير نحوها طفيفًا لكنه يحدث, فلربما خفتت الأصوات المنادية بالتكفير والتهجير والوصاية الفكرية وقلتّ نسبة الطائفية على الصعيد المحلي وأيضاً نادت أصوات هادفة بإحلال الحوار والنقاش طريقًا واحدًا مُعبدًا للجميع ومحوراً أساسياً في كل قضية, هذا يحدث أيضاً، فلنتفاءل لأنه كما قال الدكتور (الحقيقة لا تُحتكر).
لكن ما أراه عسيراً على التغيير ما جاء في الكتاب بعنوان القولبة والفكر النمطي، لأنه ما زال لدينا أناس يحملون أفكارًا وعرة، يرون أن الله خلقهم لوحدهم, ما زال لدينا أيضاً أشخاص حاربوا حق الفرد في مجرد التفكير والخلاف فنبذوه بالإقصاء والتهميش ولطخوا سيرته بالتزوير. هذا يحدث أيضاً لكننا نأمل أن يجد الفكر طريقه إلى تعدداته لأنه كما قال الدكتور (الفكر تعدد).
وليسمح لي الدكتور بالتطفل على مائدته بقصارى الكلام, وإن كنت لا أستطيع إحصاء كل جواهر هذا الكتاب وكل (صرخاته) لكني أثق دائماً أن الصوت يصل مهما كان فارق الزمن بعيدًا لكنه يصل.. يصل دائماً.
بالمناسبة: خلا هذا الكتاب من العبارة الروحية الأنيقة للدكتور والخاصة به (صاحبكم). فشكرًا له هذا الكتاب وشكراً له هذا الإهداء.
** **
- رباب محمد