لعل أول شعور ينتاب الإنسان منذ طفولته هو الحلم بما لا يتحقق، إنه يحلم دوما بكل ما يظن أنه سيدفعه إلى الاكتمال، والطمأنينة، والنجاح، والتميز، وقبل ذلك كله يسعى إلى تحقيق الشعور بالأمان بمفهومه الواسع؛ الأمان النفسي والاجتماعي والاقتصادي، وبغير ذلك يظل يشعر بالافتقار، ويطمح إلى تحقيق ما يمكن أن يسد ذلك الافتقار، إنه شغوف باليوتيوبيا، مسكون بهاجس التجاوز للراهن المنكسر دوما، طموح بالمستقبل الذي يظن أنه مضيء ومكتمل.
وإذا نظرنا إلى واقع الإنسان العربي الذي اندلعت في أراضيه ثورات ما سمي بالربيع العربي فهو واقع موبوء، مريض، مفكك، وبوليسي قامع على أشد ما يكون القمع، بل ويفتقر إلى أدنى مقومات الإنسانية، إنه يفتقر إلى الأمان الذي أشرنا إليه آنفا بشتى مفهوماته، وإذا كان ذلك كذلك فإن ما قام به شيء متوقع وعفوي وكان يسعى من خلاله إلى تحقيق ما يطمح إليه من حياة كريمة وتحقيق العدالة الاجتماعية والشعور بالأمان والطمأنينة، لكن البوصلة انحرفت فضاعت نداءاته بين المصالح والأطماع التي تكالبت عليه من داخل بلده وخارجه.
لكن المؤسف حقا أن المثقف في تلك البلدان وحتى في البلدان التي تجاوزت هذه المحنة لم يكن يؤدي دوره المنوط به والمؤمل منه كما ينبغي، بل كان هو الآخر رهينة لمصالحه الشخصية ورؤاه وأطماعه، بل وفي معظم الأحيان كان معظم المثقفين قد هيمنت عليهم نزعاتهم الفردية التي ترتكز على أنانية فاضحة في بعض الأحيان، أو ترتكز على نزوع طائفي أو عرقي أو حزبي أو مذهبي، بل وفي معظم الأحيان كان يبيع المثقف قلمه وصوته لهذه الجهة أو تلك، أو يفضل الصمت خشية القمع أو الاضطهاد.. وفي كل الحالات هذا لا يعفي المثقف من الاضطلاع بدوره وتأدية واجبه باعتباره صوتا جمعيا وليس فرديا، إنه صوت من لا صوت له، صوت الحقيقة، وصوت المجتمع، وصوت المضطهدين، والمقموعين، والمهمشين، والمرضى، والجوعى، والأقليات، إنه صوت الحق، ولو وعى الجميع ذلك لكان كل شيء على ما يرام، لكن الأمر لم يكن على ما يرام وما يزال في تلك البلدان.
العجيب في الموضوع أنه قد مضى على اندلاع صوت المحتجين زمن طويل غير أنهم يشعرون –والأمر كذلك- أن حقوقهم ما زالت مسلوبة، وأن أحلامهم ما زالت مهدورة، والأكثر عجبا أن المثقف ما يزال مهدورا ومسلوبا لم يتعلم الدرس بعد، إنه حبيس أطماعه ومشاريعه وطائفيته وعرقيته وأموره الشخصية ليس إلا، وهو ما يدفعنا إلى القول: هل مثل هذا يمكن أن يكون مثقفا؟ الإجابة بالطبع لا، والسبب بلا شك بسيط بل وعادي جدا؛ لأن المثقف صوت الحقيقة وعينها ونبضها، بل إن من ينطلق من ذلك هو المثقف العضوي الذي يلتزم بقضايا أمته وشعبه وإنسانه، بل وضميره.
وخلاصة ما يمكن قوله إن المثقف في زمننا هذا لم يسهم حضاريا، ولم يسهم ثقافيا، وهو مسلوب إنسانيا، ومغيب بالفعل والقوة، مغيب ذاتيا واجتماعيا، إنه عاجز عن الفعل وإن أوهمنا أنه فاعل، إنه عاجز وإن أوهمنا أنه يسعى إلى تنوير المجتمع، إنه يطفئ الشمعة ويلعن الظلام في الآن نفسه، إنه مثقف موبوء بداء العرقية والطائفية والحاجة.
** **
- د.عائشة صالح الفيحان