أشد ما يبعث الأسى في النفس هو: الخلط بين المُطْلَق والنسبي، لأن ذلك يشل قدرة العقل على التفكير السليم، الذي سمّاه أرسطو «منطق».
الحِكَمْ كلها تعتمد «المبدأ المطلق» في تفسير الظواهر والفعل الاجتماعي. فمثلاً عندما تقول الحِكْمة: «من جد وجد ومن زرع حصد» تخفي بهذا القول آلاف السنين من تسلط الأسياد على الكادحين ونهب جهودهم المضنية في بناء الأوطان وتنميتها، فهؤلاء الكادحون قد «جدّوا» ولكنهم لم «يجدوا». أما المزارعون الذين لا يملكون الأرض؛ وما أكثرهم؛ فالمحظوظ منهم يحصل على عشر ما زرعه «بعرق جبينه»! وبالإضافة إلى ذلك، هو مجبر أن يطعم آل بيته بجزء من ذلك العشر، ويبيع ربما الجزء الأكبر ليكسو أولاده. إذن هل مقولة «من جد وجد ومن زرع حصد» صحيحة بالمطلق؟
كنت في شارع أبي نواس في بغداد ذات مرّة، وسمعت فتاتين تتحادثان بالصدفة، تقول واحدة للأخرى: ألم تسمعي بالقول المأثور «وراء كل رجل عظيم امرأة»؟ فقالت الأخرى ببساطة وتلقائية «واحنا دائماً ورا..ورا.. وليش ما نكون قدام؟». وأنا بدوري جال في ذهني السؤال المحق ذاته، ثم تبعه في ذهني سؤال آخر: لماذا يجب أن يكون هناك وراء وأمام؟ لماذا لا يكونان الرجل والمرأة إلى جانب بعضهما بعضاً؟ ويكونان سوية عظماء؟ بل يمهدان الأرضية لذرية من العظماء؟ فهل هذا ممكن؟ وإذا كان ممكناً؛ فهل يمكننا «تعديل» المقولة المطلقة بأخرى نسبية؟ كأن نقول مثلاً: «إلى جانب كل رجل عظيم امرأة عظيمة».. ولكن قدمنا هنا الرجل على المرأة مرة أخرى! لنقل مثلاً: «إلى جانب كل امرأة عظيمة رجل عظيم»... وهنا قدمنا المرأة على الرجل. إذن أين يكمن القصور في تلك المقولة الحمقاء المطلقة؟ هل يكمن في ذلك الوعي الذي تراكم في أذهاننا المريضة منذ آلاف السنين، باعتبار المرأة أقل من الرجل؟ .. نعم قد يكون السبب الرئيس، ولكن ليس كافياً «لتعديل» تلك المقولة! فالمرأة والرجل ليسا مطلقين أيضا، فلكل امرأة ورجل على الأرض اسم وتاريخ ميلاد وجغرافيا وسيرة حياة تصنفهم، تارة من الأسياد وأخرى من العبيد وثالثة مما بينهما!
في المحصلة؛ لا يجوز اعتبار المقولات المُطْلَقة حقيقة! فالواقع نسبي! ولا يمكن توصيف النسبي بالمطلق! لأن مثل هذا التوصيف يقتل كل السياقات الاجتماعية ويغفل العامل الحاسم في تطور المجتمع، بل البشرية كلها، ألا وهو الصراع الاجتماعي بين الظالم والمظلوم.
توجد في الغرب الرأسمالي أسماء «عظيمة» من نساء ورجال صنعها الإعلام الغربي، الذي تختبئ «وراءه» أجهزة المخابرات! فهل يجوز القول: «وراء كل اسم غربي عظيم جهاز مخابرات عظيم»؟.
** **
- عادل العلي