د. عبدالحق عزوزي
كثر الحديث في الأوقات الأخيرة عن قراءة المستقبل ومستقبل العلوم وجامعات المستقبل ووظائف المستقبل والذكاء الاصطناعي والمستقبل... وكلها مواضيع كان قد أشار إليها المتضلعون في الدراسات الاستشرافية المستقبلية، بمعنى أنه يجب على الفاعلين أن تكون لهم القدرة على فهم الظواهر المتعدِّدة وتحليلها تحليلاً علمياً قبل أن يسبروا أغوار المستقبل، معتمدين في ذلك على مرتكزات أساسية كالتحكم في المجالات التي توجه البحث مثل: التوازن البيئي - صياغة قوة دفاعية ردعية- التأثير في مجريات الأحداث الاستباقية دون الدخول في الركود الاقتصادي أو المديونية - ضمان استقرار التماسك الاجتماعي- تفادي الأزمات الاقتصادية، تنمية العلوم، التوفر على السبق في المجال الصناعي... وأيضاً على تحديد البدائل المستقبلية انطلاقاً من الحاضر (وبالضبط انطلاقاً من نتائج الباحثين في العلوم المتخصصة) لتأخذ الطابع الواقعي، وعلى اختيار بديل من البدائل المستقبلية كحلّ ناجع لمعضلة من المعضلات الممكنة أو لتحسين حالة من الحالات أو البدء في التأثير في مجريات الأحداث والتي لولاها لوصل المجتمع إلى حالة أسوأ.
ويكون الهدف من البحث المستقبلي الإسهام في تطور الإنسانية وخدمة المجتمع، إلا أن الهدف الإضافي في هذا الجانب موضوع البحث يتمثَّل في تفادي المعيقات التي تمنع من تحقيق مستقبل أفضل وبلورة الحلول لعيش أرغد؛ فمن لن يستثمر اليوم وليس غداً في الذكاء الاصطناعي فسيفقد وجوده الريادي في ساحة الدول المؤثِّرة والمتقدِّمة في المستقبل؛ لذا كان لزاماً على الدول وضع إستراتيجيات رئيسية لدائرة التعليم والمعرفة وتوفير بنيات متنوِّعة ودقيقة لدعم البحث والابتكار، بحيث تكون محركاً للتحول الاقتصادي وقاعدة للمهارة والتنافسية... ثم قبل هذا وذاك يجب الاحتياط من أخذ قرارات أو تبني إستراتيجيات سيئة سيؤدي ثمنها أجيال من المواطنين ...
وللحاصل على جائزة نوبل والأستاذ في كلية «شيكاغو بوث» الأستاذ ريتشارد ثالر كتاب قيم في هذا الصدد بعنوان «التنبيه» (Nudge) الذي ألفه بمشاركة كاس بي سانستين وحقق أعلى المبيعات في العالم، كما نجح الكتاب في البحث عن الأسباب التي تدفع الأشخاص للاختيارات السيئة أو غير العقلانية في قراراتهم الاقتصادية.
والتنبيه مصطلح صاغه ثالر بنفسه، ويمكن أن يساعد الأشخاص في السيطرة على أنفسهم بطريقة مثلى إلى درجة أن أبحاث هذا الخبير الاقتصادي أدت منذ سنوات بالحكومة البريطانية لتأسيس «وحدة للتنبيه» خلال ولاية رئيس الوزراء السابق ديفد كاميرون، متبوعة بإجراءات مشابهة في دول أخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي فهمت أن أبحاث هذا الخبير لما سيحقق توازنها الاقتصادي وقوتها الاستباقية في رصد المشاكل ومعالجتها قبل فوات الأوان.
نقول دائماً للطلبة في الجامعات إن غرض كل علم كيفما كان نوعه هو تنمية المجتمع، فمهمة الباحث الأولى هي كيف يمكن أن يدلي بدلوه في تحقيق التنمية والنماء داخل المجتمع؛ ولكن في الولايات المتحدة الأمريكية خلافاً لأوروبا والقارات الأخرى، نجد أن هذا التواصل بين الباحث والمجتمع هو تواصل الروح بالجسد وتصرف عليه الملايير من الدولارات، كما أن عملية تنقيط الأساتذة والزيادة في رواتبهم تتم أكثرها من خلال تقييم اللجان الدقيقة في مدى مساهمة الأستاذ الجامعي ليس فقط في عمليات التلقين والتدريس ولكن في عمليات البحث والتأليف، وليس كل التأليف ولكن تلك التي لها صلة مباشرة في التأثير على المجتمع ...
ولعل طلبتنا والباحثين اليوم في أوطاننا العربية يأخذون من مسيرة وأبحاث ريتشارد ثالر ما يمكّنهم من فهم قواعد الإنتاج في مسيرتهم الجامعية، فالعلم ليس فقط للحفظ والتلقين، كما هو دأب مؤسساتنا الجامعية في الوطن العربي، وإنما هو للإنتاج، وهو الذي مكَّن دولاً مثل أمريكا من الحصول على جل جوائز نوبل وفي كل المجالات، وعلى التأثير الإيجابي على صنَّاع القرار في التأصيل لسياسات عمومية رائدة، بل ومكَّنت دولاً لم تكن تعرف جامعات حديثة قبل نهاية الحرب العالمية الثانية مثل سنغافورة إلى أعلى مراتب التقدّم والرخاء لشعوبها. فسنغافورة عندما حصلت على استقلالها عام 1965 كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نحو 500 دولار، وكانت واحدة من أفقر المناطق الآسيوية ولكن في عام 2014 تضاعف الناتج المحلي الإجمالي مائة مرة ليصل إلى ما يزيد على 50 ألف دولار لتلحق بركب دول العالم المتقدِّم؛ وطبعاً قراءة المستقبل وتطور التعليم كانا السبب في ذلك.