أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لقد عني علماء المسلمين وأئمتهم خلال المجد التاريخي لأمتنا بكل ما يتعلق بالشريعة المطهرة عقيدةً وفقهاً وسلوكاً وأصولاً وحديثاً وتفسيراً؛ ولا أظن أن أمةً من الأمم تضاهيهم بكثرة الموروث في هذا المجال؛ ووجد عندهم بشح كبير معالجة لشرح وجهة النظر لنصوص الشرع على نحو ما يسمى الآن (الكتاب الإسلامي)، أو (الفكر الإسلامي)؛ وذلك إما في مؤلفات خاصة ككتاب (العامري) عن محاسن الإسلام، وكذلك كتاب (البخاري) عن محاسن الإسلام المطبوع مع مراتب الإجماع لـ(ابن حزم) رحمنا الله وإياهم جميعاً، وإما في فصول متناثرة كدفاع (الشافعي) عن السنة، ولقد بسط الإمام (ابن حزم) إعجاز السيرة المصطفوية المطهرة بأسلوب أدبي؛ وعالج الإمام (ابن تيمية) شبهة انتشار الإسلام بالسيف في مواضع من كتبه، وهكذا مباحث (الشاطبي)، و(ابن عبدالسلام)؛ فإنها كلها من صميم الأصول؛ ولم يشح هذا الجانب في مأثورهم لزهادة فيه، أو عدم قدرة عليه؛ فهم أقدر على فلسفة هذا الجانب؛ وإنما تركوه لعدم الحاجة إليه؛ فليس في مجدهم التاريخي أمم علمانية تفصل سلطان دين الله عن سلطان الإسلام المعصوم.
قال أبو عبدالرحمن: وأما في هذا الزمان: فإنني أرى أنه على المسلم أن لا يبتلعه روتين العمل الأكاديمي؛ بل عليه أن يفرغ شيئاً من وقته لدراسة الفكر المعاصر خيره وشره؛ ليبسط من خلال ذلك ضياء الفكر الإسلامي وعصمته؛ وله الغلبة دائماً إن شاء الله تعالى؛ لأنه يحاج بخبر المعصوم وحيه من الجهل والسهو والعبث؛ وليست الأمة بحاجة إلى هذا التراكم في الفقه والتفسير وشروح الحديث إلا ما كان من باب الإضافة بحجة علمية مستجدة؛ ذلك أن العقل البشري اليوم في جنوح إلى التطلع والاستعلاء؛ فلا بد أن يتعامل علماء المسلمين مع العقل البشري بوعي وأهلية.
قال أبو عبدالرحمن: لقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً من بعثته المقدسة يدعو إلى (لا إله إلا الله) قولاً ومضموناً: لا يساوم على هذه القضية بأي حل من الحلول؛ ثم جاء التشريع كله في عشر سنوات وحسب بالمدينة المنورة؛ وتلقته النفوس بالقبول والإذعان والطاعة عن فرح ورضىً؛ لأنه بعد تحقيق (لا إله إلا الله) استقامت كل الأمور؛ ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته الأسوة الحسنة؛ وأقررا في هذه السيرة العطرة: أن الإسلام لا يرمم فساداً موجوداً، ولا يهادن وثنيةً قائمة، ولا يطرح حلولاً جزئية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعله ديناً ناسخاً للأديان، مهيمناً عليها، باقياً إلى يوم القيامة، ولأن الأرض خلق الله وملكه، والبشر عبيد الله وخلقه، والدين لله سبحانه وتعالى وتنزيله، وأرض الله لا تصلح إلا بشرع الله، والله لا يحب الفساد في الأرض؛ لهذا لم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البداية غير تحقيق (لا إله إلا الله)؛ ليتحقق الإسلام بتحقق وعي المسلم؛ وحينئذ: لا يكون نقص ألبتة يحتاج إلى إصلاح وترميم؛ لأن منزل الشرع هو الأعلم بما يصلحهم؛ ولأنه سبحانه وتعالى مقدر أقدارهم، العليم بمصائرهم، المتمم مسيرتهم إذا صدقوا، العليم المحيط بسرائر قلوبهم.
قال أبو عبدالرحمن: إن رضى الله سبحانه وتعالى شرط في صحة أقوالنا وأفعالنا ونياتنا، وكل ما كان لنا من التراضي في عقودنا فيما بيننا ابتداءً بشراء الرغيف من الخباز، وانتهاءً بعقد البيعة للحكومة: فهو مأخوذة من رضى الله؛ لأنه كان بمقتضى عهده الشرعي ؛ وإذن فالحاكمية لللإسلام؛ لأن الحكم لله؛ ولأنه (لا إله إلا الله)؛ والاعتراف بهذه الحقيقة يعني خلوص العمل وصوابه بإحسان.
قال أبو عبدالرحمن: إن إعلان (لا إله إلا الله) اعتراف بالعبودية لله؛ ويعني تحرر النفوس وعلوها وغناها عن كل من سوى الله من خلق الله؛ وهذا الاعتراف: هو قوة النفس، وثقتها بتحمل ما يلقى عليها من عزائم الشرع المطهر؛ وكل عزيمة خيرة من عزائم الشرع المطهر يريدها بعض المصلحين حلاً جزئياً: فإنها لا تكون كافيةً ولا مغنيةً عن تكوين نفس المسلم بمقتضى (لا إله إلا الله)؛ وإنما تأتي تلقائيةً بدهية من المبادىء المذكورة آنفاً؛ وهذه المبادئ يقوم عليها ركن الولاء للمؤمنين؛ والبراءة من الكافرين ما بقيت في الأرض طائفة منصورة لا يضرها من خذلها إلى يوم القيامة.
قال أبو عبدالرحمن: على طريقة ومنهج علماء الشريعة نظمت هذه البويتات:
والنقل تقرير وفعل أو كلم
لهن مدلول بتأصيل علم
ما بين ظن مرسل أو قد رجح
وبين مدلول يقينه وضح
شرعيه قطع بلا شك عبر
أو ذو احتمال وارد لا يعتبر
وحكم شرع أخذنا بظاهره
إلا بصرف صح عند عابره
والأصل من نقل يكون مسنداً
إلى الذي بالمعجزات أيدا
ومسند يبدو له ما يعترض
ثبوته ففيه دعوى تفترض
إلا بإسناد صحيح متصل
يرويه من بالعدل وصفاً مكتمل
ولا يضير كونه عن واحد
ما دام في ضمان ذي المحامد
والاحتمال حوله لا يقبل
لأنه احتمال ظن مرسل
وقد يجيئ النقل بالتواتر
فيستحيل الكذب بالتكاثر
فإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.