أحمد أمير محمد
«من أعراض إصابة الجهاز العصبي بالتسمم الزئبقي تبدل لون الجلد». ربما نرى لهذه المعلومة الطبية عمقًا سياسيًا آخر، إذا قمنا بتطبيقها كقراءة سياسية وليس طبية على سلوك بعض الفاعلين المؤثرين في المنطقة وتطوراتها خلال الآونة الحالية. وربما تحمل هذه المقالة بين طياتها إجابة على سؤال محوري يطرح نفسه في ظل تسارع الأحداث والتطورات خلال الآونة الحالية؛ هل يمكن اعتبار الاحتجاجات العراقية واللبنانية التي تنعكس أخبارها كل يوم في وسائل الإعلام لتتصدر أهم تطورات منطقة الشرق الأوسط، انتفاضة من مناعة الوطن العربي ضد السم الإيراني؟
عندما تحدث انقلابات جماهيرية واحتجاجات فئوية تؤدي إلى قلب نظام الحكم في دول ما، ويترتب على ذلك ظهور جماعات فاعلة من دون حكومات مثل الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان وداعش في سوريا وميليشيات الشيعة في العراق وبوكو حرام في نيجيريا، تتحول هذه الجماعات في نطاق تطورها الجيوغرافي ومدى تأثيرها على المسارات السياسية للدول، إلى أدوات إستراتيجية تسعى القوى الدولية وراء الاستحواذ عليها من أجل بسط نفوذها واستخدامها لتحقيق أهداف إستراتيجية ومصالح سياسية. وإذا ربطنا هذا الموضوع بتطورات الأحداث في المنطقة ودور إيران فيها على مدار العقود الأربعة الماضية، ربما نقترب من الإجابة على سؤال المقالة.
لا شك في أن وضع إيران الحالي ومواجهتها للمجتمعات الدولية وخروجها عن النص في ثياب خطر إرهابي يهدد أمن منطقة الخليج العربي، هو نتيجة لسلوكيات وإستراتيجيات اتبعتها منذ ولادة نظام الولي الفقيه. فبعد قيام الثورة الإيرانية عام 1979م، سعى النظام الإيراني في هيئة كيان ثيوقراطي وراء تصدير ثورته إلى جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط، ليؤسس لنفسه ركائز ودعامات يحمي بها كيانه الجديد، واستخدم في طريقه لتحقيق هذا الهدف، كل ما بحوزته من أدوات وأوراق حتى يبسط نفوذه في المنطقة من خلال فكرة تصدير الثورة، ومن هنا ندد بشعار «دعم المستضعفين»، وفي الحقيقة يمكننا القول إن المعنى الدفين وراء هذا الشعار هو «استغلال المستضعفين». أو بمعنى أوضح، تغلل المد الإيراني في المنطقة مثل الزئبق ليملأ الفراغات السياسية الناتجة عن اضطراب الأوضاع في بعض دول المنطقة، ورسم لنفسه صورة الداعم لحقوق المظلومين وعلى الرغم من أن تاريخ الأحداث أثبت عكس ذلك.
لقد استغل النظام الإيراني الفراغات السياسية التي برزت في دول مثل اليمن ولبنان والعراق جراء ضعف حكام هذه الدول وظهور جماعات فاعلة من دون الحكومات سعت بفوضوية وراء فرض هيمنة أيدولوجية نرى تقارب بينها وبين توجه نظام الحكم في إيران، مثل أنصار الله في اليمن أو حزب الله في لبنان، أو من سار على ضربهم في العراق من أحزاب سياسية وميليشيات الحشد الشعبي.
لقد أثبت التاريخ السياسي المعاصر أن النظام الإيراني لم ير بُدًا لبقائه غير البحث عن ركائز ودعامات، ولأنه نظام قائم على مبادئ أيديولوجية لم ير تلك الركائز والدعامات في الحكومات العربية، بل عمل على استقطاب جماعات فاعلة من دون حكومات حتى يجعلها ورقة ضغط يصل بها إلى حد من النفوذ تمكنه من التحالف مع بعض الحكومات.
لذلك نجد لمن أدرك خطر التوغل الإيراني وآثاره المستقبلية على منطقة الشرق الأوسط، بل على العالم بأسره، بأن عليه قطع العلاقات الدبلوماسية نهائيًا أو خفض التمثيل الدبلوماسي إلى مستوى أشبه بقطع العلاقات نهائيًا مثل ما حدث مع مصر وقيامها بخفض التمثيل الدبلوماسي إلى مستوى مكتب رعاية مصالح في القاهرة والعكس في طهران.
ومن ناحية أخرى، تأسيس قوات الحرس الثوري أيضًا كان لهدف عميق، حيث وجدت لتكون بمنزلة أنموذج للفكرة الأيدولوجية المسيطرة على إيران في الدول التي تستطيع بسط نفوذ فيها، والعمل على توحيد المفاهيم والمصطلحات التي تغطي وجه النظام الإيراني مثل «المقاومة» و»الثورية» والمغزى هنا عندما تتوحد تلك المصطلحات والمفاهيم بين نماذج الحرس الثوري في دول مثل العراق واليمن ولبنان، يكون دعم النظام الإيراني من دعم هذه المصطلحات، فحماية النظام الإيراني يعني حماية الثورية والمقاومة وهكذا، وبالتالي كلما سعى النظام الإيراني وراء هدف أطلق له مسمى ومفهومًا كقناع له، ويصبح الدفاع عنه سمة موحدة بين أذرعته في المنطقة، لكنه في الحقيقة دفاع عن النظام الإيراني وأهدافه الخاصة. وهذا يفسر تدخلات إيران المستمرة في شؤون عديد من الدول العربية، فتركز طموحها على بناء إمبراطورية إيرانية، وقد أشار إلى ذلك علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني في مارس 2015 بكل صراحة، حينما قال خلال منتدى «الهوية الإيرانية» في طهران: «إن إيران أصبحت إمبراطورية كما كانت سابقًا وعاصمتها بغداد، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما كانت عبر التاريخ، فجغرافية إيران والعراق غير قابلة للتجزئة وثقافتنا غير قابلة للتفكيك، لذا علينا أن نقاتل معًا أو نتحد».