د. محمد بن إبراهيم الملحم
الأسبوع المنصرم شاركت في مؤتمر جميل لجامعة دار الحكمة، وقد حدثتكم عنه، وبعده شاركت في منتدى أسبار الدولي الرائع والذي يعج بالنشاط وتلتقي فيه العقول والأفكار، تحت شعار «السعودية الملهمة» وموضوعات تنظر إلى المستقبل ليتماهى ذلك مع ما تنطلق له بلادنا الغالية في رؤيتها الطموحة 2030 وكل الشكر لمركز أسبار الذي نظم هذا المنتدى الناجح ولرئيسه المتقد نشاطاً وحماساً للمستقبل سعادة الأخ الدكتور فهد العرابي الحارثي. وبهذه المناسبة فإني أشير إلى أن المجال التعليمي هو أكثر ما يحتاج إلى الملتقيات ليتمكن من ردم الفجوة بين الممارسين في الميدان، ولا أدعو هنا إلى ملتقيات بصيغة المؤتمرات العلمية النمطية التي تطرح فيها أوراق العمل أو الأبحاث وإنما تلك التي تكون موضوعاتها ساخنة ومهمة وتمس حياة الممارسين التربويين اليومية سواء كانوا معلمين أو قادة مدارس أو غيرهم، لتتم مناقشتها وطرح حلولها بطريقة مهنية وبصيغة تلائم أصحاب القرار في الجهات التعليمية ليكون لهذه الحلول مسارات ممكنة للتنفيذ، والواقع أن هناك بعض الملتقيات تعلن عن هويتها أنها من هذا النوع، لكنها تقع في فخ المؤتمرات التقليدية وينتهي بها الأمر صورة لا حقيقة ورمزاً لا جوهر، ومع أن هذه كثيرة إلا أننا لا ننكر وجود «بعض» الملتقيات التربوية التي نجحت في أن تكون لها منتجات فعالة وملموسة، وكم أتمنى أن تُرصَد هذه الملتقيات الناجحة ليتم إبرازها كمرجع قياسي «Benchmark» فتفيد منه أية جهة تعليمية ترغب بأن تعقد لقاءً يضم الممارسين التربويين فتخرج من لقائهم بتوصيات فعالة لها طعم ولون ورائحة، وليكون لها بعد ذلك جسم وأعضاء تتحرك وتنتج.
هذه الملتقيات هي من أسس نمو وتطور التعليم عبر المدارس في الغرب، فمثلاً هناك منظمة الإشراف التربوي وتطوير المناهج ASCD الأمريكية التي تعقد مؤتمراً سنوياً وصل اليوم إلى عامه الـ74 يلتقي فيه أبرز المعلمين والمديرين والمفكرين التربويين لتتعرف من خلالهم على أحدث الأساليب والتوجهات في العملية التعليمية بكل أبعادها، كما أن هناك مؤتمرات أو ملتقيات سنوية لرابطة المعلمين في مختلف الولايات والتي يدعمها -عادة- المعلمون أنفسهم من خلال اشتراكاتهم المالية، وهم من يتحدث فيها ويناقش ويوصي، وأطروحات لقاءاتهم هذه تعكس لصناع القرار والأكاديميين صدى الميدان والذي له اعتبار وقيمة كبيرة تلمسها في كثير من الكتابات والقرارات. وهناك مؤتمرات مصاحبة لكل من معرض ISTE في أمريكا وBETT في بريطانيا، وكل منهما يعرض أحدث المستجدات في تقنيات وطرائق التعليم الحديثة، وعندما تحضر للمعلمين الذين يقدمون تجاربهم في هذه المؤتمرات تلمس العمق الكبير الذي يقدمونه.
لقد كانت وزارة التربية في عهد سابق جداً تعقد مثل هذه الملتقيات للممارسين كل في مجاله وكانت المناطق التعليمية تشارك الوزارة في استضافة هذه الملتقيات، فهذه الإدارة تستضيف مثلاً لقاء تخصص اللغة العربية، وتلك تستضيف لقاء الرياضيات، وثالثة تستضيف ما يتعلق بالإرشاد الطلابي، ورابعة تستضيف ما يتعلق بالإشراف التربوي.. وهكذا. وعلى الرغم من بعض الانتقاد الذي وجه لبعض هذه الملتقيات في مبالغة بعض الجهات المستضيفة في الجانب الاجتماعي أو رفاهية الضيوف، إلا أن عدداً من هذه اللقاءات كان مثمراً جداً وله نتائج نوعية جيدة، وبعضها يعايشه الميدان اليوم مثل مشروع استراتيجيات التدريس، والربط الإلكتروني لتقارير العملية الإشرافية، وبعض التطبيقات في موضوعات مختلفة من المواد والتخصصات.
من جهة أخرى، فإن الخلل في تطبيق مبدأ جيد وفعال لا يعني إسقاط المبدأ بكليته والتخلي عنه تماماً! بل ينبغي معالجة التنفيذ، وهو واجب الجهة المشرفة الذي ينبغي عليها التصدي له لا الهروب منه بقفل الباب تماماً.
التقاء المعلمين المتقنين لمهنتهم وتشاورهم وتبادل الخبرات فيما بينهم، وكذلك التقاء الممارسين التربويين في المجالات الأخرى كالقيادة المدرسية والإشراف التربوي والنشاط الطلابي والإرشاد، سيكون له أثره الكبير على تنوير أصحاب القرار بنبض الميدان، وهذا يلتقي مع توجه الوزارة الأخير الذي نلمسه في التأكيد المستمر على أهمية المعلم ومهنة التدريس، لا سيما وقد توجت هذه الجهود -مؤخراً- بمشروع معهد التطوير المهني التعليمي، ومثل هذه اللقاءات لكي تثمر حقاً فينبغي أن يكون لها جهة ضمن وزارة التعليم، تشرف عليها وتسوس طريقتها في الأداء ومخرجاتها، لا أن تترك لاجتهادات هنا وهناك، ينبغي أن تكون هناك أهداف واضحة، وحسن اختيار للمشاركين، بحيث يمثلون تخصصاتهم فعلاً ويكونوا هم الأبرز فيها مهنياً (لا مجرد مديرين للأقسام فقط) وتقدم أطروحات ذات معنى يتم الاطلاع عليها قبل الملتقى لتطمئن الجهة المشرفة أن الملتقى سيكون منتجاً فعلاً، كما أن إدارة فعالياته تكون محكومة ومضبوطة بنظام واضح المعالم، ويدير ذلك أشخاص مجربون ولهم سابق خبرة وإتقان في إدارة ورش العمل واللقاءات لكي يستثمر الوقت ويثمر اللقاء، وفوق هذا وذاك يكون التقييم حقيقياً وسابراً لحقيقة فائدة اللقاء لا لشكلياته ورضا الحضور عن «الخدمات» المقدمة فيه، وبمثل هذا التقييم الأصيل ستفهم الجهة المشرفة على هذه اللقاءات كيف تسير بها مستقبلاً.. وهكذا ينشأ ما يسمى بمنحنى التعلم الصاعد الذي تتحسن فيه هذه اللقاءات مرة بعد مرة وسنة بعد سنة، خاصة أن من ينظمها ويديرها هي جهة واحدة كل مرة فهي تتعلم عبر المرات خلال السنة ويتعلم معها من يشارك عبر السنوات.
الثمرة الأجمل لمثل ذلك في المستقبل البعيد أن تجد قرارات الوزارة وقد بنيت على نتاج بعض هذه اللقاءات، فمتى يكون ذلك؟